في تأمل تجربة الكتابة.. مع الرواية الفلسطينية على هديٍ من “بنت من شاتيلا”
فراس حج محمد/ فلسطين
قضيتُ الأسبوع الماضي في رحلة نقدية ممتعة مع “رواية بنت من شاتيلا” للروائي أكرم مسلم، حيث تناولت في هذه الرحلة، عبر خمس مقالات، العناوينَ والقضايا الآتية:
– كيف يمكن للكاتب أن يتورط في المأزق الأخلاقي؟ وكانت تتناول أَيْقَنَة الشخصية التي نجت من المجزرة “مجزرة شاتيلا” بأعجوبة. (كيف تصبح الحالة الواحدة الفريدة شخصية روائية؟) والموقف الأخلاقي من هذا التصرف الإبداعي.
– التخييل الذاتي في الرواية وتناقش قضية حضور ذات الكاتب في الرواية، فقد كان حاضراً من خلال شخصية “الشاب الأنيق”. وأصرّ ناشر المقال على نشر المقال تحت اسم مختلف بدعوى أن عنوان المقال مباشر، ولا يعبر عن المضمون. هكذا ادّعى المحرر عندما راجعته مع أنه لم ينكر بحثه عن عنوان مثير للقارئ وهذا ما حدث.
وتعقيبا على موضوع “التخييل الذاتي” أقول: إن حضور الكاتب لم يتماهَ كليا مع متطلبات رواية “التخييل الذاتي”، إذ تفترض هذه التقنية السردية ثلاثة محددات رئيسية: السرد بضمير “أنا”، وأن يورد اسم الكاتب في المتن الروائي صراحة، وأن يكون ذلك ضمن فن “الرواية”، ولا يجعل ذلك المكتوب سيرة ذاتية، بل يعني إدخال الكاتب نفسه في عملية التخييل الروائي.
ويوظف الكاتب في روايته ضمير الغائب “هو”، ولم يصرّح باسمه، ولكن كانت هناك إحالات مواكبة للرواية تفترض مثل هذا الحضور على الرغم من تحذير ماريو فارغاس يوسا في “رسائل إلى روائي ناشئ” من الربط بين الروائي وبين السارد أو الشخصية الرئيسية حتى لو كنا شبه متأكدين من هذا الحضور، وقال بذلك نقاد وكتاب آخرون كذلك، ولأن الرواية في نهاية المطاف متخيل سردي لا تتطابق مع حياة الكاتب تطابقا تاما، وليس مطلوبا منها أن تتطابق لا كليا ولا جزئيا مع حياته، ومع اتفاق الكتاب جميعا على أن الكاتب لا يكتب إلا من تجربته الذاتية، والتجربة هنا ليست التجربة المعيشة فقط، بل تلك التجربة المستقاة من الكتب والمشاهدات والأخبار وغير ذلك مما كان له علاقة بخبرة الكاتب نفسه. ومع كل ذلك ثمة ما يحيل الرواية إلى وقائع خارجها مرتبطة بحياة الكاتب، وهذا ما وضحته المقالة الثانية.
– المقالة الثالثة كانت تبحث في تجليات حضور الآخر في الرواية، والآخر في الرواية كان متعددا؛ إسرائيليا قاتلا، ولبنانيا متعاونا مع القاتل الإسرائيلي ومنفذا للجريمة، ويقف على قدم المساواة في المساءلة القانونية والجنائية عن أحداث المجزرة، وحضر الآخر العربي السوري تحديدا، والأوروبي في صورة الألماني، وكذلك اليهودي المجني عليه في معتقلات النازية، كما كان هناك الآخر الفلسطيني، ورأيت أن المكان قد شكّل آخر في هذه الرواية أيضا.
– في المقالة الرابعة ناقشت البنية الروائية المعتمدة على المسرح، وحضور المفردات المسرحية في الشكل العام للرواية وفي البنية النصية، مجترحا مصطلح “تَرْوِيَة المسرح” أي جعل المسرحية رواية بمقابل ما عرف من مصطلح “مسرحة الرواية” أي تحويلها إلى مسرحية.
– في المقالة الخامسة ناقشت “المفارقة الزمنية” في الرواية وتمظهراتها النصية من خلال استحضار الكاتب للحدث الماضي وشخصيات تاريخية والحكاية الشعبية القادمة من زمن الأتراك.
وبعد: لم ينته الحديث عن هذه الرواية، وأفكر في كتابة أخرى “كتابة عن الكتابة”، وربما تناولت فيها النص المحيط والنص الفوقي، وهما مصطلحان نقديان من النقد البنيوي.
في كل تلك المقالات ابتعدت عن “الانطباعية” والتقييم لفنية الرواية، وسأتحدث بعجالة هنا عما جناه الكتّاب الفلسطينيون على الفن الروائي بشكل عام، فقد لاحظت عند الكثيرين من الروائيين مسخا للفن الروائي في بنى نصية قصيرة لا تتجاوز الـ (150) صفحة، بعد إزالة كل ما يسبق المتن الروائي من زوائد وصفحات فارغة نتيجة المونتاج، على حين أن الرواية الكلاسيكية كانت تتألف من مئات الصفحات، فرواية “موبي ديك” مثلا تقارب 800 صفحة من القطع الكبير بخط طباعي صغير، وروايات دوستويفسكي وماركيز ودان براون وإليف شافاق ونجيب محفوظ وخاصة في الثلاثية ورواية السراب كلها كانت روايات تعتني بالصنعة الروائية التي تحرص على تفاصيل التفاصيل والوصف الخارجي للمكان والشخصيات، بينما غابت تلك التفاصيل في معظمها من الرواية الفلسطينية المعاصرة عند الجيل الجديد، لتتحول الرواية الفلسطينية عند هذا الجيل إلى ما يشبه السرد الفكري الذي يغلب عليه الصبغة الأيديولوجية الدعائية، فليس مهما أن تعتني بالتفاصيل الروائية بقدر ما يهم الفكرة التي تعشش في فكر الكاتب وتضغط عليه، حدث ذلك مع غسان كنفاني، كما حدث مع أكرم مسلم ووليد الشرفا وسامح خضر وإبراهيم جوهر وجميل السلحوت، وآخرين غيرهم كثيرين. ولم تكن الروائية النسوية (التي تكتبها كاتبات) أحسن حالاً فهي تعاني من مشاكل أخرى، أهمها الانزياح إلى الإنشائية وارتفاع مستوى البوح الذاتي.
لا يعني أنني كتبت في روايات أكرم مسلم العديد من المقالات أنها روايات نموذجية في مفهوم النقد الكلاسيكي، ولكنها من باب آخر، بعيدا عن هذه النقطة، تحمل تلك الروايات خطابا فنيا بحاجة إلى الوقوف عليه، لا باعتباره روايات كاملة الأهلية في هذا الفن، بل باعتبارها نصوصا سردية ذات نفس روائي، وكذلك الحال في أغلب الروايات التي ناقشتها في كتابي “ملامح من السرد المعاصر” بجزأيه الأول والثاني.
لقد شدد النقد الكلاسيكي على الحجم؛ للتفريق بين القصة وبين الرواية، ولست أعني القصة القصيرة بطبيعة الحال، ويفترض الحجم رواية مليئة بالتفاصيل الروائية، إن كانت تساهم في بناء معمار فني جيد، وليست مجرد ثرثرة زائدة ليس من ورائها قيمة فنية، أو خدعة طباعية في تكبير حجم الخط ومد السطور لإيهام القارئ بأن المطبوع رواية مكتنزة، وعلى ذلك شواهد فاضحة.
ربما ساهمت عوامل كثيرة في تبدل حال الرواية الفلسطينية والرواية العربية، ولعل الجوائز من أهم تلك العوامل، وقبول تلك الجوائزُ الرواياتِ الممسوخة التفاصيل، لتكون روايات منافسة على تلك الجوائز، وصارت ذائقة النقاد المحكّمين معتلة وممسوخة هي كذلك، لاسيما ونحن نرى فوز روايات أثبت النقد الأدبي الموضوعي المتأني أنها لا تستحق، ما يعني أن هناك ظلماً أدبياً وإبداعياً لمن يستحق، وهذا جرس إنذار أخلاقي يجب أن يقرع وبقوة، ولم تعد تلك الجوائز سوى تظاهرات دعائية لا تخلو من المنحى السياسي، فتمنح ترضية للكتّاب بعد حرد، وتراعي المحاصصة الجغرافية، أو ربما صارت أحيانا تكفيرا عن عقدة ذنب ما، مقترفٍ من التاريخ على حين غرة، كما يشاع أحيانا في تفويز الرواية الفلسطينية في بعض دورات الجوائز العربية التي صارت تفقد مصداقيتها دورة بعد دورة.
إن الكثرة الكاثرة من الداخلين إلى فن الرواية أفسدوا الرواية وصنعتها، فقد جاءوا إليها وهم لا يعرفون عنها شيئا، وربما لم يكونوا قد اطلعوا على ما يلزمهم من صقل أدواتهم، فعلاقاتهم بالنقد علاقة مقطوعة في المجمل، واستسهلوا الكتابة العشوائية ولم يدركوا أن الرواية ليست عملا سهلا وتحتاج إلى كثير من التأمل والمعايشة والوقت والبحث والدقة في المعلومات، وكما أن الرواية ليس حكايا وخراريف وتجميع أحلام، فإنها أيضا ليست خطابا فكريا فجّاً، إنها صنعة بالغة التعقيد وتحتاج موهبة فذة، بقدرات تخيُّليّة وسردية هائلة، فليس بسيطا أن تخلق عالما بشخوصه وأقداره وأحداثه، على الروائي أن يتصوّر نفسه “إلهاً” قادرا على بث الحياة في شخصياته ومنحها قدرة فائقة على التصرف بحرية بعيدا عنه، بحيث يشعر القارئ أنه يجالس تلك الشخصيات ويشعر أنها من لحم ودم وليست أشباحا ورقية جافة، يُلقى في فمها الكلام لصنع رواية بائسة، كما هو حادث في الرواية الفلسطينية إلا ما رُحم، وما نجا من ذلك إلا النادرُ النادر في أسماء لا يتعدى عددها أصابع الكف الواحدة. ومن هنا يجب أن ندرك نحن القراء والنقاد والكتاب معنى الروائي العظيم.
ربما لن يتغير حال الرواية الفلسطينية قريبا، ولكن يكفي أن أقول: إن ثمة تزويرا في حركة الأدب العربي بعامة والفلسطيني على وجه الخصوص قادما من منطقة السرد العبثي، وبعد فترة من الهدوء وتغير الحال السياسي، سيكون هناك محاكمات ذات أقلام حادة تقول في كل هذا السيل السردي كلمتها، ولكننا على ما يبدو سننتظر كثيرا حتى يحدث مثل هذا.