مركز ينابيع الأدب الثقافي يحيي الذكرى الخامسة لرحيل الشاعر عمر خليل عمر

مداخلتي في ذكراه: الشاعر عمر خليل عمر في ذكراه الخامسة.. ناهـض زقـوت

نظم مركز ينابيع الأدب الثقافي في شمال قطاع غزة إحياء للذكرى الخامسة لرحيل الكاتب والشاعر عمر خليل عمر، في قاعة جمعية التراث، بحضور جمع غفير من الكتاب والمثقفين والشعراء والمخاتير والوجهاء، وعائلة الراحل الكبير، ومهتمين بالشأن الثقافي.
*
جاءت لتسألني وقد غذت خطاها … في حنين وشجن
من أنت يا هذا؟ ومن ساروا بجنبك في الطريق المحتقن؟
قل بربك من تكون؟ وما تريد … ومن … ومن؟
أنا من كبلوه، وقيدوه، وعذبوه … لأنه يهوى الوطن؟
أنا صاحب الأرض السليبة … من يحن إلى ثراها .. في حزن؟
هي في الفؤاد، وفي العيون، وفي العقول مدى الزمن.
في رحلته التي امتدت سنوات تجاوزت الثمانين عاماً، لم يعرف الكلل أو الملل أو الراحة، أو الارتكان إلى أمجاد الماضي، بل واصل الحياة بقلب مفتوح, وذهن متقد، وابتسامة ممزوجة بحب الحياة. خاض النضال منذ البواكير الأولى للشباب، وقاد الجماهير نحو هدف منشود، ورؤية تعبر عن الانتماء القومي العروبي، صاغ مجداً بالصبر والمكابدة، وكتب بحبر الدم لوحة عز وفخار ما زالت ناصعة كبياض الثلج في شريط الذكريات.
من أرض زهر البرتقال، وزهر اللوز والتوت في بيت لاهيا، كانت البواكير نحو صناعة المجد العلمي في جامعة القاهرة، وعلى أيدي أساتذتها الكبار تعلمت، وهنا تفتحت مداركك الوطنية، فالتحقت بالكلية الحربية من أجل فلسطين، ولم يكسر السجن عنفوانك، بل واصلت حرب التحرير الشعبية، لتصبح المسؤول العسكري الأول المكلف بالمهام النضالية والفدائية. ومن معلم النضال إلى معلم الأجيال في كلية غزة واصلت دربك، تبث في الأجيال الجديدة روح النضال والصمود والتحدي.
عشق اللغة العربية، وانطلق مغرداً نحو الأفاق الشعرية بجماليات خاصة من تنوعات فنية وفكرية متباينة، كانت فلسطين الكلمة والقصيدة، بدأتها بأغان الوطن، وسنظل ندعو الوطن، إلى مرثية الشرف العربي، إلى عراق الصمود والتحدي، ولم ينسوا لك أمر على الديار، تلك الديار التي عشقتها وعشقتك.
لم تدخل في تعقيدات اللغة، بل طوعت اللغة لتكون صورة شعرية معبرة عن نبض الناس وهمومهم وأحزانهم وآلامهم وأفراحهم. كتبت تغازل الروض الأنثوي الطافح بالجمال وبالحب كأنك تغازل الأنهار التي تترقرق صفاءً, وتغرق النحل كي تقلدك باختيار الزهر, وتباري العنادل لكي تحيى الصباح وتنشد للشمس وهي تمد أول خيوطها في هذا الوجود، ذاهبا إلى الإذاعة لكي تسجل قصيدة أو سيرة كاتب أو قائد عظيم، وتمر على مركز عبد الله الحوراني لتقرأ أخر ما كتبه من الشعر، وفي مكتبي كانت آخر قصيدة تلقيها. تشارك في الأمسيات والندوات شامخاً كالطود تلقي أشعارك، تتغزل في المرأة فتنتعش الحسان، وتحكي قصة الوطن فتحمر الأيادي من التصفيق، وأحياناً تدمع العيون.
ثمانون عاماً وما يزيد وأنت تشدو للوطن، فلم ينساك الوطن، ولن ننساك .. فهذه الجموع الحاضرة اليوم جاءت لكي تكرم ابن الوطن في ذكراه، وتقول لك: لقد علمتنا كيف نحب الوطن، كيف نسمو بالوطن فوق جراحنا .. كيف نتوحد بالوطن؟ فلسطين ليست كلمة بل هي فعل نضال، وتحت رايتها تكون عزتنا وكرامتنا.


في كتابك الأخير الذي صدر بعد وفاتك (حوار مع حمار) كم كنت ساخراً من الإنسانية والإنسان، انطلاقاً من فكرة أن الإنسان والحيوان من مخلوقات الله، فلماذا ثمة ظلم من الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وبالتالي لماذا الظلم تجاه الحيوان. لقد صور جبروت الإنسان أن من حقه أن يفعل ما يشاء اعتقاداً منه أنه الأفضل من بين مخلوقات الله، فمن حقه التصرف كما يشاء مع المخلوقات الأخرى بأن “يقطع هذه الشجرة، ويذبح تلك البقرة، ليرضي رغبته، ويشبع غريزته”. وقد دفعه غروره وشعوره بالأفضلية أن يذهب باتجاه قتل أخيه الإنسان، دون الالتفات إلى رسالة السماء التي تدعو إلى الرحمة والعطف التي أمر بها الله عباده نحو مخلوقاته.
لقد خلق طرفين للحوار لكي يبني من خلاله عالماً مثالياً يؤمن به، ولا يستطيع أن يوصله أو يعلمه للإنسان، فجعل من الحمار أداته في توصيل الرسالة، فإذا كان الحمار لديه عالم مثالي غير قائم على القتل والتدمير والخراب، ونشر المحبة والأمان والسلم الاجتماعي، فالأولى أن يكون الإنسان هو صاحب هذا العالم المثالي.
يقول: “إن لي فلسفتي في الحياة، لا أغيرها ولا أبدلها، لا أتلون ولا أنافق، عندي كل الناس سواء، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حقير أو أمير، ولا أفضح سراً، ولا أنشر خبراً، كل ما أراه أو أسمعه من سيدي الإنسان أكتمه في نفسي، وأحفظه لنفسي، صابر على المكاره، متجاهل للتوافه، أصادق من يصادقني، ولا أعادي من يعاديني، ثابت على مبدأي ومؤمن بديني”.
هذا العالم المثالي البعيد عن الحقد والكراهية، وعن القتل والتدمير والخراب. القائم على المحبة والأمان. هو ما يسعى إليه الكاتب في نشر رسالته، ورغم أنه استمع لموقف الحمار الكاشف للحقيقة التي يحاول الإنسان أن يتجاهلها لأنه مغرور ومعتد بذاته بالأفضلية، إلا أن هذه الأفضلية لم تمنحه الأمان والعيش بسلام، فما عليه إلا أن يهتدي بحكمة الحمار.
*
في الختام لن أجد أجمل مما قاله شاعرنا وكاتبنا الراحل في تورية لغوية تفجر المعنى الذي يمس شغاف القلب، ويؤكد سمو روحه في تحقيق قدسية الوطن:
قد قلت أني لا أحب الساقطين على رصيف الانهزام المنكسر
قد قلت أني لا أطيق البائعين لأرضهم خوف الضرام المستعر
فأنت يا عمر خليل عمر ابن العقيدة والشهادة والكرامة في زمان الخانعين المحتضر
رحم الله شاعرنا وطيب الله ثراه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com