هل تمر الدولة الأمريكية بمرحلة الشيخوخة المبكرة؟/ عميرة أيسر-كاتب جزائري

سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي لمدة 3عقود متواصلة، وأضحت الدولة التي تتحكم بالاقتصاد العالمي، وتمول دول أوروبا الغربية اقتصادياً و مالياً وتهيمن عليها عسكرياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فهذه الدولة التي صاغت ورسمت قواعد النظام الدولي الجديد، وأوجدت نظمه و مؤسساته وأطره التنظيمية، وأليات عمله وميكانيزمات بقاءه، تعيش منذ سنوات تراجعاً ملحوظاً على جميع الأصعدة والمستويات، ولم تعد تلك الإمبراطورية العظمى التي تخيف معظم الدول، وتتحكم في اقتصادياتها وتوجههاً سياسياً وعسكرياً بما يخدم مصالحها، واستمرار مشروع الهيمنة والسيطرة على ثروات الشعوب، وخاصة في العالم الثالث، فهذه الدولة التي فرضت منطقها وسياساتها على الدول باستعمال سياسة الترغيب والترهيب، والتي نجحت في اخضاع القوى الكبرى لإرادتها طويلاً، قد تأثرت سلباً بتغير المعطيات الجيواستراتيجية في العالم، و التي تمثلت في بروز قوى دولية جديدة، وتشكيلات سياسية واقتصادية كمجموعة شنغهاي ودول البريكست التي قررت تحدي السيطرة والهيمنة الأمريكية المنفردة، وذلك عن طريق توظيف أليات القانون الدولي والاحتكام لبنود الشرعية الدولية، واتباع سياسات واستراتيجيات سياسية ومالية واقتصادية، ترتقي بها لمصاف الدول التي تمتلك سيادتها الوطنية، جاعلة منها دولاً متحررة إلى حدّ كبير من الضغوط والعقوبات الاقتصادية الأمريكية التي طالت دولاً مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
واذا انتقلنا للحديث عن المشاكل الداخلية التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية فإنها كدولة عظمى تعاني حالياً من انقسامات حادة ستؤدي لتفككها واندثارها كدولة تعددية، إذ أن هناك ولايات أمريكية كتكساس التي تعتبر من أغنى الولايات في أمريكا، والتي يبلغ حجم صادراتها السنوية 330 مليار دولار، ستنظّم العام القادم استفتاء شعبي مصيري من أجل الانفصال عن الوطن الأم، وربما سيؤدي نجاحها في ذلك لتحفيز ولايات أمريكية أخرى من أجل المضي قدماً في نفس المسعى، بالرغم من أن الانفصال عن الحكومة الفيدرالية المركزية مخالف لكل بنود الدستور في بلاد العم سام، وهي الولاية التي تضم أكبر القواعد العسكرية الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا البلد يعاني من ارتفاع في نسب التضخم، وفي أسعار الوقود وما أنجر عنه من ارتفاع كبير في أسعار العديد من المواد الغذائية الواسعة الاستهلاك، في ظلّ الحديث عن انتشار و تفشي الموجة الخامسة من فيروس كورونا، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي، مع تأكيد الدكتور فاوتشي بأن وباء جدري القرود سيعرف انتشاراً واسعاً في الأشهر القادمة، وهذا ما سمح بسطوع نجم الرئيس السّابق دونالد ترامب، ذي النزعة القومية الشوفينية الاستعلائية المتطرفة، والذي هاجم جوزيف بايدن وحمله المسؤولية كاملة عما ألت إليه الأوضاع في أمريكا، كل هذه العوامل مجتمعة وغيرها، أدت لتراجع شعبية بايدن لأدنى مستوياتها منذ توليه منصبه، بحيث أن آخر استطلاع للرأي نظمته مؤسستي رويترز وأيسوس، يشير إلى انخفاض معدل التأييد الشعبي لبايدن بنسبة 39 بالمئة في ثالث تراجع أسبوعي على التوالي، وهو الأدنى منذ توليه منصبه، ووجد الاستطلاع الذي نظم على مدار يومين، بأن هناك 56 بالمئة من الأمريكيين غير راضين عن أداءه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا مؤشر خطير على أن حزبه الديمقراطي ربما سيفقد السيطرة على أحد مجلسي الكونغرس على الأقل في انتخابات التجديد النصفي في 8نوفمبر/تشرين الثاني. مثلما ذكر موقع 24 الإخباري، بتاريخ 15جوان/ يونيو 2022م، في مقال بعنوان (تراجع شعبية بايدن للأسبوع الثالث على التوالي)
فالاستراتيجية الأمريكية التي استخدمت أليات الحسم العسكري في الكثير من الدول منذ ستينيات القرن الماضي، والتي عملت على خلق بؤر توتر دائمة في العديد من المناطق الجيو استراتيجية المهمة، كمنطقة الشرق الأوسط اعتماداً على استراتيجية هنري كسنجر ثعلب السّياسة الخارجية الأمريكية، والذي كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي في حكومة ريتشارد نيكسون، وهي الاستراتيجية التي تمّ تسريبها في عام 1974م، و التي تعتمد على تقسيم الشرق الأوسط لأربعة مناطق جغرافية، حيث أن المنطقة الأولى تضم كلاً من العراق وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان، و تسمى منطقة الهلال الخصيب، ونقطة اشغالها هي لبنان، بحيث أن هذا البلد يجب أبقاءه في حالة غير مستقرة وأشغاله بالحروب والأزمات الداخلية المفتعلة باستمرار، أما المنطقة الجغرافية الثانية فتضم كلاً من السعودية وبقية دول الخليج العربي، ونقطة اشغالها هي الكويت، وهذا ما يفسر ربما تشجيع السفيرة الأمريكية في بغداد السيّدة ايريل جلاسبي لعملية احتلال الكويت أنذاك ، وما جره ذلك على المنطقة من تبعات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية، أما المنطقة الجغرافية الثالثة فتشمل كلاً من مصر والسودان وتونس وليبيا، ونقطة اشغالها هي ليبيا، فاحتلال ليبيا من طرف حلف الناتو والعمل على تقسيمها وتفكيكها جزء من تلك الاستراتيجية الأمريكية المرسومة، أما المنطقة الجغرافية الرابعة، فتضم كلاً من الجزاءر وموريتانيا والمغرب والصحراء الغربية، ونقطة اشغالها هي الصحراء الغربية، لأنها ستكون الشرارة لانطلاق حرب إقليمية بين الجزاءر والمغرب، ستعطي الذريعة لأمريكا من أجل فرض عقوبات عسكرية واقتصادية على الجزائر قبل احتلالها.
ولكن مع بروز قوى عظمى جديدة كالصين وروسيا، سيطرت على المشهد السّياسي والأمني والاقتصادي، في جنوب ووسط أسيا، ومنطقة القوقاز والبلقان والبحر الأسود بالإضافة لبحر الصين الجنوبي، عرفت الاستراتيجية الأمريكية تقهقراً ملحوظاً مع تمتين العلاقات السّياسية بين موسكو وبكين، وازدياد حجم التعاون بينهما في كافة المجالات، وهذا ما ظهر جلياً عند قيام القوات الروسية بغزو أوكرانيا، وذلك في إطار حرب الطاقة الدائرة رحاها بين روسيا ومنظومة حلف الناتو، حيث أن الإدارة الأمريكية قد تعهدت في أكثر من مناسبة بأنها ستتدخل عسكرياً في حال قامت روسيا بغزو أوكرانيا أحد أهم حلفاءها الاستراتيجيين في أوروبا الشرقية، ولكن سرعان ما تركتها لمصيرها بعد دخول قوات الجيش الروسي لإقليم الدونباس، واكتفت بفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، كما قامت بإرسال معدات عسكرية وأسلحة دفاعية وصواريخ متوسطة المدى للجيش الأوكراني، وهو نفس الموقف الذي ستتخذه في حال قررت الصين غزو تايوان، بالرغم من تصريحات جوزيف بايدن، والتي أكد من خلالها على أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي في حال أقدمت الصين على تنفيذ عمل عسكري ضدّ تايوان، وهو ما يعتبر تحولاً نوعياً في السّياسة الأمريكية التي اتبعت سياسة الغموض الاستراتيجي، أو ما يعرف اصطلاحاً ” بغموض ايزنهاور”، حيث لطالما اتسمت سياسته الخارجية بالضبابية وعدم الوضوح والغموض وعدم اليقين. كما ذكر موقع BBC NEWS بتاريخ 26ماي/ أيار 2022م، في مقال بعنوان ( الصين وتايوان: هل يتخلى بايدن عن سياسة ” الغموض الاستراتيجي” التي تتبناها واشنطن ؟).
ويبدو بأن الوضعية الصحية لبايدن قد انعكست على السّياسة الخارجية الأمريكية التي أصبحت تعاني هي الأخرى، حيث تراجعت مكانة أمريكا كثيراً في الشرق الأوسط، إذ لم يستطع جوزيف بايدن خلال زيارته الأخيرة للمنطقة، تحقيق كل أهدافه المرجوة من تلك الزيارة، فإعلان القدس الذي أكد من خلاله دعم أمريكا اللامشروط للكيان الصهيوني الذي قتل ولا يزال أطفال فلسطين المحتلة وأمام أنظار العالم أجمع، اعتبره الكثيرون محاولة أمريكية للتغطية على فشل بايدن في إقناع القادة العرب الذي حضروا قمة جدة بضرورة التحالف مع الكيان الصهيوني من أجل تشكيل جبهة موحدة ضد إيران تمهيداً لشنّ حرب ضدها ستكون بمثابة الشرارة الفعلية لانطلاق الحرب العالمية الثالثة، وكذا دفع الدول الخليجية المنتجة للبترول والغاز والتي شاركت في أشغال تلك القمة التي عقدت بالسعودية، لرفع إنتاجها بغية خفض أسعار تلك المواد الطاقية في الأسواق الدولية، وتعويض امدادات الغاز الروسي لأوروبا، خصوصاً بعد اقدام بوتين بقطع امدادات الغاز والبترول عن دول أوروبية مهمة في حلف الناتو، ويبدو بأن السّياسة الأمريكية ستستمر في التراجع والتقهقر، وهذا ما سيؤدي إلى ابتعاد حلفاء واشنطن التقليديين عن المحور الغربي، واقترابهم بالتالي من المحور الشرقي الذي تقوده روسيا والصين وكوريا الشمالية، والذي من المتوقع بأنه المحور الذي سيعود العالم مستقبلاً.