التوازن بين المقاومة وحماية الجبهة الداخلية.. حلمي أبو طه

في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، تتجلى الحاجة الملحة لتحقيق توازن بين المقاومة وحماية الجبهة الداخلية. كما يبرز الحديث عن ضرورة التحضير والتخطيط للمستقبل. واليوم الثاني للحرب، ومن هنا لا يمكن تجاهل الواقع المعقد الذي يعيشه الفلسطينيون، حيث يواجهون تحديات كبيرة على مختلف الأصعدة. ولكن قبل الخوض في الحديث أود أن أتوجه بالشكر الكامل إلى الإعلامية والدكتورة رباب على التعليق على منشوري الاخير بحيث أقدّر وجهة نظرها وقرأتها لما كتبت فشكرًا لمرورها وتعطير صفحتي بجمال وعطر ما كتبت ومنحي هذا الرد القيم والواقعي، والذي يضيف بعدًا مهمًا للنقاش. ومن هنا كان لزاماً حق الرد المكفول بحكم قواعد الكتابة والنشر. والحقيقة الأولى التي أود الانطلاق منها أني لم أشِر إلى “الاستقرار التام” كشرط مسبق للتحرك لمواجهة العدوان، بل أكدت على أهمية تعزيز الجبهة الداخلية عبر دعم الاستقرار الاقتصادي، وضبط الأسعار، ومنع استغلال الظروف من قبل تجار السوق. هذه العوامل ليست دعوة للجمود او لترف الانتظار، بل لضمان قدرة المجتمع على الصمود في الفترات الحرجة، وهو ما يساهم في تحقيق استجابة أكثر فاعلية واستدامة. وهذا ما يدعوا إليه علم الاقتصاد في أن التنظيم الداخلي والعدالة الاجتماعية كركيزتين أساسيتين في استدامة الصمود.
إن استحضار توصيف “ترف الانتظار” لا يعكس الواقع الذي عاشه أهل غزة طوال العقود الماضية، حيث لم يكن هناك متسع للترف أو الانتظار، بل معاناة مستمرة منذ (1917)، مرورًا بنكبات ونكسات، ووصولًا إلى سنوات الحصار والحروب المتتالية. فقد كنا في غزة نشعر ونحس أن الفرح نعيشه بأمل وأن أيامنا ثقال حتى في ظل استقرار نسبي. أما بخصوص الواقع الحقيقي بعد (2007)، فإن غزة واجهت خمس حروب كبرى، إلى جانب تصعيدات متكررة وأزمات إنسانية واقتصادية خانقة. وخلال هذه السنوات، لم يكن لأهل غزة رفاهية الانتظار، بل خاضوا معركة يومية من أجل البقاء والصمود. وليبقى الباب مشرعاً للسؤال الأهم: هل تحقق ما وُعد به الناس؟ هل حُسنت أوضاعهم المعيشية؟ هل مُنحوا ما يستحقونه من حياة كريمة؟ هذه تساؤلات يطرحها أهل غزة بأنفسهم، وهم الأقدر على الحكم، ليس وفق الشعارات، بل بناءً على واقعهم اليومي الملموس.
نعم غزة ليست دولة مستقرة، ولكنها تخوض حرب تحرير، وندرك جيدًا قدرات الخصم قبل أن نقيس قدرتنا، وأنهم في ذروة العلو، ونعلم جيداً ما تمليه علينا عقيدتنا المستمدة من القران والسنة ونعلم ما جاءت به هذه التعاليم وهذه التوجيهات، ولنا في رسول الله ﷺ القدوة الحسنة. فحين ننظر إلى سيرة رسول الله ﷺ، نجد أنه لم يبدأ بالجهاد فور وصوله إلى المدينة، بل ركّز أولًا على بناء المجتمع ووضع أسسه المتينة. فقد بدأ في: (بناء المسجد كمركز للعبادة والتوجيه، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتعزيز الوحدة، تسكين المهاجرين وإيوائهم لضمان الاستقرار الاجتماعي، كتابة الوثيقة (صحيفة المدينة) التي مثلت دستورًا لتنظيم العلاقات داخل المجتمع، بناء السوق لضبط الاقتصاد وتأمين احتياجات الناس). هذه الأسس كانت جوهر بناء الدولة والمجتمع، ولم يكن رسول الله ﷺ في مأمن خلال هذه الفترة، فقد كانت المدينة محاصرة بمكائد يهود ومخاطر قريش، ورغم ذلك، كان الترتيب واضحًا: التأسيس أولًا، ثم المواجهة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تحقق هذا البناء؟ وأترك الإجابة لأهلها، فهم الأقدر على تقييم واقعهم، بعيدًا عن الشعارات، وبناءً على ما يعيشونه فعليًا كل يوم.
كما أن استدعاء تجربة صلاح الدين الأيوبي لا يعني تجاهل حقيقة واقع صلاح الدين الايوبي والمقاومة الفلسطينية والفوارق الزمنية والسياسية، بل هو استخلاص لسنن الله ومن ثم للعِبر الاستراتيجية من التجارب التاريخية. فصلاح الدين لم يبدأ من دولة مستقرة بالكامل، فقد كان جزءًا من دولة منظمة، لكنه لم يبدأ معركة التحرير مباشرة، بل واجه تحديات داخلية كبرى، ولم يكن جيشه جاهزًا لخوض معركة كبرى، بل كان عليه ضمان تماسك الجبهة الداخلية قبل الانطلاق لتحرير القدس. وبالنسبة لغزة فهلا تعتبر (18) سنة من الحكم في غزة غير كافية لاستخلاص العبر والسير نحو تصويب الأخطاء؟ وهل استُثمرت التجارب؟ وهل الحديث عن خمسة حروب كان يجب أن تقع حتى نصل لحقيقة الواقع أننا لم نكن نجيد فن التكتيك والمناورة. ودعونا من كيل الاتهام أننا ضد المقاومة لأن أصغر طفل في غزة مجبول وبالفطرة على عشق المقاومة واللون الزيتي، ولم نتهم المقاومة برفاهية الإعداد خلال السنوات التي قاربت بالمناسبة لعشرين سنة بل ندعو لهم ونخاف عليهم فهم جزء أصيل من أبناء فلسطين، وهنا يجدر القول إن مسألة التحضير وإن وصلت (20) سنة ترفاً بل ضرورة، لكنها يجب أن تكون متوازنة مع بناء الداخل فالمقاومة الحقيقية ليست فقط حمل السلاح، بل بناء مجتمع قادر على الصمود والاستمرار. وهذا في علم الإدارة يتطلب إدارة رشيدة للموارد، وتحقيق استقرار اقتصادي، وضمان بيئة داخلية داعمة للمقاومة، لا مثقلة بالأزمات الداخلية. لذلك كان يُفترض أن تكون هذه الفترة تسير في اتجاهين للتحضير والبناء العسكري، وفي تحصين الجبهة الداخلية، والاستفادة من الدروس المتكررة. لكن يبقى السؤال: هل استُثمرت هذه التجارب لتعزيز مقومات الصمود الداخلي؟ هل جرى العمل على بناء اقتصاد قوي يُخفف من أعباء الناس؟ هل تم وضع استراتيجيات لاستيعاب الضغوط وتخفيف الأزمات عن المواطنين؟
لم أتناول مسألة الانقسام في حديثي، تجاهلًا ولكن لإدراكي أن الخوض فيها بشكل جدلي لن يفضي إلى جديد، فواقع الانقسام معروف للجميع، وأسبابه ليست موضع خلاف. ولكني استحضرت غزة في حديثي باعتبارها كيانًا يرى فيه الحاكم أنه متكامل الأركان، وهذا توجه استمر قرابة (18) سنة، وبالتالي فإن الحديث عن الاستقرار الداخلي في غزة لا يعني القبول بالانقسام، بل هو تأكيد على ضرورة معالجة الثغرات التي يستغلها العدو لإضعاف المقاومة. أما تعليق مسألة الانقسام بالكامل على شماعة الاحتلال، فرغم صحة دوره في تعزيزه، فإن استمرار القبول به من قبل طرفي القيادة يجعل كل طرف مسؤولًا عن تداعياته. لذا فحديثي كان موجهًا إلى قيادة غزة باعتباري أحد رعاياها، وطلبي مشروع: السعي إلى تحقيق الاستقرار الداخلي في غزة تحديدًا، بمعزل عن أي مدينة أو قرية خارجها، لتعزيز التماسك الداخلي، لا لتأجيل المواجهة، بل لتقليل الثغرات التي قد يستغلها الاحتلال لصالحه.
وجدير بالذكر أن القضية الفلسطينية لم تكن يومًا في حالة سبات حتى نقول إن طوفان الأقصى أعادها إلى الواجهة وكأنها كانت غائبة عن المشهد. هذا الطرح يختزل عقودًا من النضال الشعبي والمقاومة المستمرة في محطة واحدة، ويتجاهل تضحيات الشهداء والجرحى والأسرى الذين شكلوا على الدوام جوهر هذه القضية. الحرب الأخيرة لم تكن مجرد تحرك سياسي أو إعلامي، بل جاءت في الأساس لتحرير الأسرى، وهو دليل واضح على أن القضية لم تكن غائبة، بل كانت دائمًا في صدارة المشهد العربي والإقليمي والدولي، وإن كانت تمر بحالة من الإهمال الدولي المقصود. ولا شك أن المقاومة نجحت في كسر حالة التهميش الإعلامي والسياسي التي عانت منها القضية الفلسطينية، وهذا مكسب استراتيجي يجب استثماره بحكمة. لكن إعادة القضية إلى الواجهة لا يجب أن تكون هدفًا بحد ذاته، بل ينبغي أن تكون جزءًا من استراتيجية متكاملة ومستدامة، تعزز قدرة الفلسطينيين على تحقيق إنجازات ملموسة، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، وليس مجرد إثارة الاهتمام العالمي مؤقتًا. كما أن إعادة تسليط الضوء على القضية لا تعني بالضرورة نجاحًا، إذا لم يكن هناك تقدم حقيقي في حياة الناس. المقاومة لا يمكن أن تحقق أهدافها إذا كان الشعب الذي تستند إليه يعيش في ظروف اقتصادية واجتماعية تهدد نسيجه الداخلي. فلا انتصار عسكري يكتمل دون أن يترافق مع رؤية سياسية واضحة وأسس صلبة للصمود الشعبي.
ومن الحقائق علمي اليقين، وبلا أدنى شك، أن العدو الإسرائيلي في ذروة قوته، وربما بلغ مرحلة غير مسبوقة من الحشد العسكري والهيمنة السياسية، بما يتوافق مع توصيف القرآن الكريم لـ “العلو الكبير”. ومع إدراكي لهذه الحقيقة، لم أشِر في حديثي إلى وجوب التريث أو انتظار الاستعداد الكامل، ولم أطرح فكرة الوصول إلى درجة من الترف أو الزهزهة، وإنما كان حديثي واضحًا ومحددًا حول ضرورة توفير الحد الأدنى من الحماية للمواطنين. فهل أصبحت المطالبة بصيانة الدم ترفًا؟ وهل أصبح الحرص على حماية الشعب كفرًا؟ إن ما قلته لا يعني التراجع أو التردد، بل هو تأكيد على أهمية الموازنة بين الفعل المقاوم وصون الدماء، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما انسحب من معركة وغزوة مؤتة حفاظًا على جيشه، فكانت ردة فعل الرسول ﷺ على من أتهم الجيش بالفرار أن قال “الكرّار” لا “الفرّار”. وحيث إننا نعلم جميعًا بمدى تغوّل المشاريع التوسعية للعدو، خاصة في ظل تسارع وتيرة التطبيع، فالسؤال الحقيقي ليس ما إذا كان يجب التحرك، ولكن هل واجهنا هذا الواقع بحنكة كافية؟ هل تعاملنا مع هذا المشهد المعقد بأدوات استراتيجية متكاملة؟
إن الحديث عن “تحضير كامل” بعد (18) سنة، فهو أمر هراء لم أطرحه أصلًا، ولم يكن ضمن سياق حديثي، لذا أستغرب هذا التعليق وكأنه يُصوّرني كغريب عن الواقع وعن غزة وأهلها، في حين أنني أتحدث كواحد منهم، يعيش واقعهم، ويشعر بمعاناتهم، ويدرك تحدياتهم عن قرب. ولا شك أن المقاومة ليست دولة مستقلة ذات اقتصاد حر كما كان الحال مع صلاح الدين، وهي تعمل تحت حصار خانق يفرض عليها تحديات هائلة. وأنا لم أطالب بتحقيق استقرار اقتصادي شامل كما في الدول المستقلة، بل تحدثت عن الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي، وهو مطلب مشروع وضروري لضمان استمرارية الفعل المقاوم بفعالية أكبر. وهذ ما علمتني إياه الشريعة الإسلامية وصنيع الرسول ﷺ حين خط بقدمه الشريفة حدود ومكان السوق ليعلن بناء الاقتصاد قبل بناء الجيش. فالتحضير العسكري لا يعني إهمال الجبهة الداخلية، بل العكس تمامًا، إذ أن أي حركة تحرر وطني لا يمكن أن تستمر دون ظهير شعبي قوي ومتماسك، قادر على الصمود في وجه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي يستخدمها العدو لإضعاف المقاومة من الداخل. أما القول بأن المطالبة بالاستقرار الداخلي تعني انتظار المستحيل، فهو افتراض خاطئ، لأن الاستقرار الداخلي لا يعني تأجيل المواجهة، بل يعني تقليل نقاط الضعف التي قد يستغلها العدو. فإذا كنا نقرّ بأن العدو يعتمد على الحصار والتجويع والتفكيك الداخلي كأدوات حرب، فكيف لا يكون السعي لتحصين الجبهة الداخلية جزءًا أساسيًا من التحضير للمواجهة؟ لذلك، حديثي ليس نظريًا أو بعيدًا عن الواقع، بل هو تأكيد على أن المقاومة الناجحة هي التي تحقق توازنًا بين المواجهة العسكرية وبين تأمين الحد الأدنى من مقومات الصمود الشعبي، لأن الشعب هو الحاضنة الأولى والأهم لأي مقاومة.
أتفق تمامًا مع جميع أبناء فلسطين التاريخية في الداخل والخارج على أن الدعوة لنبذ الخلافات ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية ملحة، إلا أنني لم أتطرق إليها في حديثي، انطلاقًا من قناعتي بأن القيادة في غزة لا تقبل شريكًا سياسيًا، وهو ما دفعني للتركيز على واقع غزة الداخلي وما يجب أن تكون عليه في ظل الظروف الراهنة. لكن هذا الأمر ليس دعوة للانقسام، بل هو تأكيد على حاجة أبناء غزة إلى فترة من الهدوء والاستقرار والأمن الداخلي، ليعيشوا حياة كريمة تحفظ لهم كرامتهم وتوفر لهم الحد الأدنى من الطمأنينة في ظل الحصار والتحديات المتزايدة. ولنقل بصيغة أخرى حياة الترف والرفاهية، فقد وردا في الردود سبع مرات، أربع مرات للرفاهية، وثلاث مرات للترف، في حين أن الواقع الفلسطيني بعيد كل البعد عن هذه المصطلحات. لم نعرف يومًا الترف أو الرفاهية، ليس جحودًا أو بخلاً، بل لأن الاحتلال فرض علينا واقعًا من الألم والمعاناة، حيث لا يكاد يخلو بيت في فلسطين من الحزن، سواء بسبب فقدان شهيد أو أسير أو معاناة دائمة بفعل الحصار والعدوان. لذا، فإن الحديث عن الرفاهية في هذا السياق يبدو بعيدًا عن طبيعة الواقع الفلسطيني الذي نشأ أجياله على المقاومة والصمود لا على البحث عن الترف. أما بالنسبة إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، فلم أتطرق إليها في حديثي، ليس استهانة بأهميتها، ولكن لأنني أؤمن يقينًا بوعد الله بأن فلسطين أرض مقدسة اختارها الله لحكمة إلهية، ومصيرها محسوم بإرادته. فالله يعلم ما كان وما سيكون، وقد اختار أهل فلسطين ليكونوا جزءًا من هذه الأرض المباركة، بكل ما تحمله من مسؤوليات تاريخية وتضحيات عظيمة.