في مُدِنِ العمى..

في زمنٍ تتوارى فيه الحقيقة خلف جدران الصمت الدولي، وتُغتال فيه القيم الإنسانية على مرأى ومسمع من العالم، تأتي القصيدة لتكون صرخةً في وجه العمى الأخلاقي، وتوثيقًا حيًّا لنبض مدينة لا تموت.
في هذا النص الشعري، نكتبُ سِفرًا رمزيًّا وإنسانيًّا عن غزّة؛ الجريحة والشاهدة والشهيدة، حيثُ تصبح البلادةُ عارًا معلَّقًا على جبين البشرية، ويصبح الشعر وسيلة مقاومة، وصوتًا لمن لا صوت لهم.
إنها قصيدة تُخاطب القاصي والداني، تُدينُ الغفلة، وتُنذرُ الضمير الحيّ — إن بقي فيه رمق — بأنّ ما يحدث في غزّة ليس قدرًا، بل جريمة ممتدة في الزمان والمكان.
في مُدُنِ العَمَى…!
نص بقلم: د. عبد الرحيم جاموس
فِي مُدُنِ العَمَى،
حَيْثُ تَسْكُنُ البَلادَةُ عُرُوشَهَا،
تُشَيَّدُ لِلْجَهْلِ مَعَابِدُ،
وَتُعَلَّقُ الضَّمَائِرُ عَلَى الْمَسَامِيرِ
كَأَيْقُونَاتٍ بِلَا رُوحٍ،
يَصْمُتُ الْعَالَمُ
كَأَنَّهُ تَعَوَّدَ
أَنْ يَرَى النَّارَ تَأْكُلُ قَمْحَنَا،
وَلَا تُحْرِقُ أَصَابِعَهُ.
*
غَزَّةُ،
يَا حِكَايَةَ الرَّمْلِ حِينََ يُصِيرُ نِدَاءً،
يَا قَصِيدَةَ الصَّبْرِ فِي فَمِ الْجُوعِ،
يَا مَدِينَةً
تَغْسِلُ جِرَاحَهَا بِمَاءِ الْبَحْرِ،
وَتَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ
أَرْغِفَةً
لِأَطْفَالٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْوَطَنِ
مَوْئِلًا وَمَصِيرًا.
*
غَزَّةُ،
يَا نُبُوءَةَ الدَّمِ فِي زَمَنِ الْخَرَسِ،
يَا نَبْضَ الْمِلْحِ حِينََ تَفِيضُ بِهِ الْعُرُوقُ،
كُلُّ نَافِذَةٍ فِيكِ،
قَصِيدَةٌ تُكْتَبُ بِالشَّظَايَا،
وَكُلُّ زَنْزَانَةٍ،
مِئْذَنَةٌ تُنَادِينَا مِنْ قَلْبِ الْحِصَارِ.
*
أَيْنَ أَنْتُمْ؟
أَيُّهَا السَّادِرُونَ فِي فَرَاغِ رَفَاهِكُمْ،
أَيُّهَا الْمُتْخَمُونَ بِصَمْتِكُمْ،
هَلْ ضَاقَ بِكُمُ الْكَوْنُ
عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَرْتَدِي
وَجْهَ طِفْلٍ
يَقْتَسِمُ الْهَوَاءَ مَعَ الْمَوْتِ؟
*
لَقَدْ مَاتَتِ الضَّمَائِرُ،
لَا الْقَتْلُ أَيْقَظَهَا،
وَلَا الدَّمَارُ،
وَلَا الطَّاعُونُ حِينََ زَارَ الْأَجْسَادَ بِلَا دَوَاءٍ،
وَلَا الطَّوَابِيرُ الْمَمْدُودَةُ
كَأَنَّهَا صَلَاةُ الْغَائِبِ
عَلَى مَنْ لَا يَزَالُونَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.
*
غَزَّةُ،
لَيْسَتْ ظِلَّ مَدِينَةٍ،
وَلَا خَبَرًا عَابِرًا
فِي نَشْرَةِ الثَّامِنَةِ،
هِيَ الْمِحْرَابُ،
وَالْمِصْلَاةُ،
هِيَ الْحَرْفُ الْأَخِيرُ
الَّذِي يَفْضَحُ
نِفَاقَ الْعَالَمِ.
*
غَزَّةُ،
لَيْسَتْ قَضِيَّةً تَنْتَظِرُ الْمُؤْتَمَرَاتِ،
هِيَ الْحَقِيقَةُ تَمْشِي حَافِيَةً
عَلَى خَرَائِطَ أَنْكَرَتِ اسْمَهَا،
وَمَا تَزَالُ تَقُولُ لِلْغَاصِبِ:
“أَنَا هُنَا…
وَسَأَظَلُّ،
وَإِنْ لَمْ يَبْقَ غَيْرُ التُّرَابِ
وَطَنِي الْوَحِيدُ.”
د.عبدالرحيم جاموس
26/5/2025 م
Pcommety@hotmail.com