في ورقة موقف لمركز “شمس”.. المرأة الفلسطينية تحت النار: انتهاك مضاعف في زمن الاحتلال

مقدمة
أصدر مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس” ورقة الموقف هذه في ظل التصاعد الخطير للانتهاكات المرتكبة بحق النساء والفتيات الفلسطينيات في الأرض الفلسطينية المحتلة، وخاصة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة والضفة الغربية، والقدس المحتلة. وتأتي هذه الورقة في إطار التزام المركز بدوره الحقوقي والرقابي، ومسؤوليته في توثيق الانتهاكات، وتحليلها وفق المعايير القانونية الدولية، وتسليط الضوء على الأبعاد الجندرية للنزاع المسلح، من خلال قراءة نقدية للواقع الميداني المتدهور الذي تعيشه النساء والفتيات تحت الاحتلال، في مقابل غياب الحماية والمساءلة على المستوى الدولي.
ففي خضم صراعٍ طويل الأمد يتسم بالاستعمار والاستيطان والعدوان المنهجي، تتعرض النساء والفتيات الفلسطينيات لانتهاكات جسيمة تمس حقوقهن الأساسية وكرامتهن الإنسانية. ليست هذه الانتهاكات مجرد نتائج جانبية لحرب عابرة، بل هي ممارسات ممنهجة تُرتكب في إطار بنية استعمارية تسعى إلى إخضاع المجتمع الفلسطيني بأسره، مع توظيف العنف ضد النساء كأداة إستراتيجية من أدوات القمع والسيطرة. في هذا السياق تُجرَّد النساء والفتيات من حقوقهن من الحماية القانونية التي يفترض أن تضمنها المواثيق الدولية.
إن الانتهاكات المرتكبة بحق النساء الفلسطينيات في الأرض الفلسطينية المحتلة، من قتل وتشريد وعنف جنسي وتعذيب جسدي ونفسي، ليست مجرد تجاوزات فردية، بل تشكل خرقاً منهجياً لاتفاقيات جنيف، ولاتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما تمثل مخالفة فاضحة لأحكام نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يدرج العنف الجنسي الممنهج ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولقرارات مجلس الأمن وعلى رأسها القرار (1325) والقرارات اللاحقة، التي تؤكد على التزامات المجتمع الدولي بحماية النساء في سياق النزاعات المسلحة.
إن استمرار صمت المجتمع الدولي على هذه الجرائم لا يمكن تفسيره إلا كتقاعس مؤسسي عن الوفاء بالالتزامات القانونية والأخلاقية. فبينما ترتكب الانتهاكات بشكل علني، وتوثق بالأدلة والشهادات الميدانية، تبقى المحاسبة غائبة، وتمنح دولة الاحتلال المزيد من المساحة للإفلات من العقاب، ما يضاعف من معاناة النساء والفتيات بشكل خاص والمدنين الفلسطينيين بشكل عام ، ويقوض فرص السلام العادل والشامل.
يسلط مركز “شمس” في هذه الورقة الضوء على مختلف أشكال العنف والانتهاك التي تتعرض لها النساء والفتيات الفلسطينيات في ظل النزاع المسلح، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، مع تحليل قانوني معمق يبين حجم المخالفات المرتكبة من جانب سلطات الاحتلال، ويبرز فشل المنظومة الدولية في توفير الحماية القانونية المنصوص عليها في التشريعات الدولية.
ولا تقتصر أهداف هذه الورقة على التوثيق فحسب، بل تسعى إلى تقديم توصيات واضحة وعملية موجهة إلى الأطراف الدولية والإقليمية .وإلى مؤسسات حقوق الإنسان وإلى المطالبة بتفعيل التزامات المجتمع الدولي بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بـ”المرأة والسلام والأمن”، من خلال تقديم توصيات عملية وشاملة تستند إلى المرجعيات القانونية الدولية، وتدعو إلى التحرك العاجل لضمان المساءلة، وإنصاف الضحايا ، من أجل تفعيل أدوات المساءلة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
أخيراً فإن العدالة لا تبنى على النسيان، والكرامة لا تصان بالتصريحات، وإنما بالأفعال الملموسة التي تعيد الاعتبار للضحايا، وتكرّس مبدأ عدم التكرار، وتفرض المحاسبة على كل من تورط في قمع النساء والفتيات الفلسطينيات وسلبهن حريتهن في العيش بكرامة. وإزاء هذا الواقع، تأتي هذه الورقة كمساهمة حقوقية وقانونية من مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس” ،لإعادة تسليط الضوء على قضية مغيبة في الأروقة الدولية، لكنها حيّة في الذاكرة الجمعية لكل امرأة فلسطينية ترفض أن تكون ضحية بلا صوت أو شاهد بلا عدالة.
المرأة الفلسطينية في سياق الاحتلال
في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ، تتعرض النساء والفتيات الفلسطينيات لانتهاكات خطيرة تمس جوهر كرامتهن الإنسانية، وتشكل خرقاً فاضحاً لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. هذه الانتهاكات، التي تأخذ أشكالاً متعددة من الاستهداف الجسدي والنفسي والاقتصادي والاجتماعي، تجري في سياق عدوان عسكري ممنهج وممتد، يستهدف البنية المجتمعية الفلسطينية بأكملها، ويترك أثراً مضاعفاً على النساء والفتيات بوصفهن الفئات الأكثر هشاشة في أوقات النزاعات المسلحة.
فالتقارير الميدانية والشهادات الحيّة التي توثق ما تتعرض له النساء في قطاع غزة تشير إلى حالات متزايدة من القتل والإصابات البليغة والتشريد القسري، نتيجة القصف الإسرائيلي العشوائي والمركّز على الأحياء السكنية ومراكز الإيواء والمرافق المدنية، بما في ذلك البيوت والمدارس والمستشفيات. كما أن فقدان المعيل، وتدمير المنازل، وانهيار البنية الصحية والاجتماعية، يضاعف من الأعباء الملقاة على النساء، ويدفع بالكثير منهن إلى دائرة الخطر .
وتُضاف إلى ذلك ممارسات الاحتلال في الضفة الغربية، حيث تتعرض الفتيات والنساء خلال اقتحامات المنازل، أو عند الحواجز العسكرية، أو أثناء الاحتجاز والاعتقال، لمعاملة مهينة وحاطة بالكرامة، تخرق قواعد حماية المدنيين في أوقات النزاع، المنصوص عليها في اتفاقية جنيف الرابعة، وتتنافى مع التزامات دولة الاحتلال بموجب القانون الدولي. هذا جانب ما تتعرض له النساء والفتيات الأسيرات الفلسطينيات للإهمال الطبي، والعزل، والتحقيق القاسي، ما يشكل انتهاكاً لاتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
كما أن استمرار هذا النمط من الانتهاكات يعكس استخفافاً صارخاً بالقرارات الدولية ذات الصلة، لا سيما قرار مجلس الأمن رقم (1325) وقراراته اللاحقة، التي تؤكد على ضرورة حماية النساء والفتيات في النزاعات المسلحة، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات بحقهن، وإشراك النساء في عمليات السلام وصنع القرار. غير أن السلطات القائمة بالاحتلال لا تكتفي بتجاهل هذه القرارات، بل تتعمد خلق بيئة قمعية تمنع النساء من ممارسة دورهن الحقوقي والسياسي والاجتماعي، وتغلق أمامهن المساحات الآمنة للمشاركة والمطالبة بالعدالة.
لذلك فإن السكوت عن الانتهاكات المرتكبة بحق النساء في فلسطين ليس فقط تقاعساً عن حماية حقوق الإنسان، بل هو تواطؤ مع منظومة عنف واستعمار. فالعدالة لا تكتمل دون إنصاف النساء، والسلام لا يكون حقيقيًا ما لم يكن شاملاً ومنصفًا لهن، والمحاسبة تبقى منقوصة ما لم تشمل كل من تجرأ على المس بكرامة امرأة أو حرية فتاة في لحظة ضعفٍ لا ينبغي أن تتحول إلى مساحة مباحة للقمع والإفلات من العقاب.
عندما تصبح الأرقام شاهدة: أرقام تكشف جريمة مستمرة
كما تشير الإحصاءات المحدثة حتى حزيران 2025 إلى أن النساء والفتيات الفلسطينيات ما زلن يتحملن العبء الأكبر في ظل العدوان المستمر، في ظل غياب أي حماية فعلية أو مساءلة قانونية للانتهاكات المرتكبة بحقهن. فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023 وحتى 4/6/ 2025، أستشهد أكثر من(54,607) فلسطينيين، بينهم نسبة كبيرة من النساء والفتيات، أي ما نسبته 38% من الضحايا المدنيين، أي ما يفوق (20,000 )امرأة وفتاة شهيدة، إضافة إلى آلاف الجريحات. بما يعكس الاستهداف الممنهج للمدنيين، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة. وفي قطاع غزة، حُرمت نحو (540,000)امرأة وفتاة من خدمات الرعاية الصحية الإنجابية، نتيجة تدمير ممنهج للمرافق الطبية، بما في ذلك مستشفى الولادة وعيادات التلقيح الصناعي، في انتهاك صارخ للحق في الصحة والحياة والكرامة.
في ذات السياق، تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي اعتقال النساء الفلسطينيات في ظروف مهينة ولا إنسانية ، تحتجز إسرائيل (36) أسيرة فلسطينية حتى أيار 2025، بينهن (4) طالبات جامعيات، قاصرتان، (12) أماً، وأسيرتان حوامل. كما تُحتجز (5) أسيرات إدارياً ، بما يخالف المعايير الدولية للمحاكمة العادلة. هذا إلى جانب الإهمال الطبي، والتحقيق العنيف، وهي ممارسات تندرج ضمن أشكال التعذيب المحظورة بموجب القانون الدولي.
أما على صعيد التهجير القسري، فقد نزح أكثر من( 664,800 ) فلسطيني من شمال ووسط قطاع غزة خلال الفترة من 18 مارس حتى 11 حزيران 2025 وحدها، بينهم عشرات الآلاف من النساء، اضطررن إلى العيش في العراء أو ملاجئ مكتظة تفتقر لأدنى مقومات الحماية. وتشير تقارير أخرى إلى أن 90% من المباني في غزة تضررت أو دُمّرت، مما أدى إلى تشريد أكثر من 1.9 مليون شخص، بما فيهم الغالبية العظمى من النساء والفتيات، في ظروف غير إنسانية، تُفاقم من هشاشتهن، وتعرضهن لخطر الاستغلال والعنف.
وتعدّ الانتهاكات الجنسية من أخطر الجرائم المرتكبة خلال هذا النزاع، إذ أكد تقرير أممي مستقل في مارس 2025 أن قوات الاحتلال استخدمت العنف الجنسي كأداة حرب ممنهجة، موثقاً حالات تعرية قسرية، تحرش، واغتصاب، خاصة أثناء الاعتقال أو على الحواجز. هذا النمط من الجرائم، يُصنّف قانونياً ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي.
إن هذه الأرقام، بما تحمله من دلالات قانونية وإنسانية، لا تمثل مجرد حصيلة انتهاكات فردية، بل تعكس سياسة منهجية قائمة على التمييز والعقاب الجماعي ضد النساء والفتيات الفلسطينيات، وتكشف عن فشل المجتمع الدولي في ضمان الحماية الفعلية وفقًا لقرارات مجلس الأمن واتفاقيات القانون الدولي الإنساني. وعليه، فإن صمت العالم أمام هذه الجرائم يُعد تواطؤًا غير مباشر مع مرتكبيها، ويفرض ضرورة التحرك العاجل لضمان المساءلة الدولية وتوفير آليات حماية فعّالة مستجيبة للنوع الاجتماعي.
انتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان
ما تتعرض له النساء والفتيات الفلسطينيات من انتهاكات جسيمة في الأرض الفلسطينية المحتلة، يشكل خرقاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، لا سيما للمادة (27) من الاتفاقية التي تنص على أنه “يجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولا سيما ضد الاغتصاب، والإكراه على البغاء، وأي شكل من أشكال خدش الحياء”. كما تُلزم المادة (3) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع كافة الأطراف باحترام كرامة الأشخاص غير المشاركين مباشرة في الأعمال العدائية، وتحظر المعاملة المهينة أو الحاطة بالكرامة.وبالإضافة إلى ذلك، فإن البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف، يؤكد في المادة (76/1)على أن: “تحظى النساء، سواء كنّ مدنيات أو مقاتلات، بحماية خاصة ضد الاعتداء على كرامتهن، ولا سيما ضد الاغتصاب، والإكراه على الدعارة، وأي شكل من أشكال خدش الحياء”.
في السياق نفسه، تُعد الانتهاكات التي تتعرض لها النساء والفتيات أثناء الاحتجاز أو خلال عمليات الاقتحام والاعتقال، مثل التعري القسري، الحبس الانفرادي، الإهمال الطبي، وسوء المعاملة أثناء التحقيق، من أشكال التعذيب وسوء المعاملة المحظورة بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، وخصوصاً المادة (1)) التي تعرف التعذيب، والمادة (16)) التي تلزم الدول بمنع المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
من ناحية أخرى، تُعد الممارسات الإسرائيلية القائمة على حرمان النساء من الغذاء، الدواء، المأوى، الرعاية الصحية، والحماية، خرقًا صريحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، وخاصة المادة(12)) التي تنص على “الحق في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية”، والمادة (11)) التي تضمن “الحق في مستوى معيشي كافٍ يشمل الغذاء والكساء والمأوى”.
أما نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، فيُدرج ضمن المادة (7/1-ز) “الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي ذي الخطورة المماثلة” كجريمة ضد الإنسانية. كما تُعد المادة (8/2/ب/XXII) ) من النظام استهداف النساء في النزاع المسلح بجرائم العنف الجنسي جرائم حرب، وتُلزم المحكمة بالنظر فيها كجزء من مسؤولية القادة العسكريين والمدنيين.
من اتفاقيات جنيف إلى قرارات الأمم المتحدة : كيف تُمزق (إسرائيل) منظومة الحماية؟
كما يشكل الاستهداف الممنهج للنساء والفتيات انتهاكاً صارخاً لمبادئ قرار مجلس الأمن رقم (1325) للعام 2000 بشأن “المرأة والسلام والأمن”، الذي يؤكد في فقراته على حماية النساء من العنف في النزاعات، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات بحقهن. كما يؤكد القرار (1888) للعام 2009 على محاسبة مرتكبي العنف الجنسي في النزاعات المسلحة، وضمان تقديمهم إلى العدالة. يُعد استهداف النساء والفتيات في النزاعات المسلحة انتهاكًا مباشرًا لمنظومة الحماية التي أرستها الأمم المتحدة بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة، والتي تُعد ملزمة قانونًا في إطار التزامات الدول الأعضاء بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
كما صدر قرار مجلس الأمن رقم (2122) للعام 2013، الذي شدد على ضرورة معالجة الأسباب الهيكلية الكامنة وراء تهميش النساء في عمليات السلام، ودعا إلى زيادة مشاركة النساء في آليات الحماية والرقابة، وهو ما يعزز من التزامات المجتمع الدولي تجاه ضمان إشراك المرأة الفلسطينية، لا كضحية فحسب، بل كشريكة في استراتيجيات الحماية والمحاسبة. وفي السياق نفسه، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة قرارات تعزز من حماية النساء أثناء الحروب، أبرزها القرار A/RES/58/147 (2004) المعنون “القضاء على العنف ضد النساء”، والذي يُلزم الدول باتخاذ الإجراءات التشريعية والإدارية لحماية النساء، بما يشمل فترات النزاع وما بعد النزاع، والقرار A/RES/69/147 (2014) حول “تعزيز الجهود العالمية للقضاء على جميع أشكال العنف ضد النساء والفتيات”، والذي دعا إلى توفير سبل الإنصاف القضائي والضمانات الوقائية من قبل سلطات الدول، وهو ما لا تلتزم به دولة الاحتلال بحق النساء الفلسطينيات.
كما أن القرار A/RES/3318 (1974) بشأن “إعلان حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والنزاع المسلح” يؤكد أن “النساء والأطفال هم من بين ضحايا الحروب الأكثر ضعفاً، ويجب عدم تعرضهم لأي شكل من أشكال القتل أو التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية”، وهو قرار تواصل دولة الاحتلال انتهاكه منذ عقود في الأرض الفلسطينية المحتلة. إن تجاهل إسرائيل لتنفيذ هذه القرارات، وتقصير المجتمع الدولي في تفعيلها داخل السياق الفلسطيني، يُعد تقاعساً جماعياً عن الالتزام الأخلاقي والقانوني، ويعزز من ثقافة الإفلات من العقاب التي تغذي استمرار الجرائم بحق النساء.
وعليه، فإن التزامات مجلس الأمن، وما انبثق عنه من أجندة “المرأة والسلام والأمن”، تُحتم على المجتمع الدولي وضع حد للانتهاكات المرتكبة بحق النساء الفلسطينيات، من خلال إرسال لجان تحقيق دولية متخصصة في جرائم العنف ضد المرأة، ومساءلة الاحتلال أمام المحافل القضائية الدولية، فحماية النساء في النزاعات ليست مجرد توصية سياسية، بل واجب قانوني وأخلاقي.
التوصيات
وطالب المركز في ورقة الموقف المجتمع الدولي انطلاقاً من التزاماته القانونية ، لا سيما الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بموجب ميثاقها، ووفقاً للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها، وعلى ضوء الانتهاكات الممنهجة والجسيمة التي تتعرض لها النساء والفتيات الفلسطينيات في سياق العدوان الإسرائيلي المستمر في الأرض الفلسطينية المحتلة، فإن المركز يطالب المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية والحقوقية، باتخاذ تدابير عاجلة وفورية، ويقدم التوصيات التالية:
- دعوة مجلس الأمن الدولي إلى تفعيل قراراته ذات الصلة، لا سيما القرار(1325) وقراراته المكملة (مثل 1820، 1888، 2122، 2467)، من خلال تشكيل آلية تحقيق مستقلة للنظر في الانتهاكات التي تتعرض لها النساء الفلسطينيات، ومساءلة مرتكبيها من قادة الاحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية الدولية.
- مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة بإدراج إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، ضمن التقرير السنوي حول الدول والجماعات المسلحة التي ترتكب انتهاكات جسيمة ضد النساء في النزاعات المسلحة، بما في ذلك القتل، العنف الجنسي، والتشريد القسري.
- دعوة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تخصيص بند خاص ضمن أعماله المقبلة لمناقشة الانتهاكات المرتكبة بحق النساء والفتيات في الأرض الفلسطينية المحتلة، وإصدار توصيات ملزمة للدول الأعضاء.
- مطالبة المفوضة السامية لحقوق الإنسان بإرسال فريق متخصص لتوثيق الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإصدار تقرير خاص يعرض خلال جلسات المجلس.
- دعوة الدول الأطراف في اتفاقية سيداو (CEDAW) إلى تفعيل آليات المتابعة والضغط على إسرائيل لتطبيق الاتفاقية بشكل فعّال، لا سيما المادة (2) بشأن إنهاء التمييز ضد المرأة، والمادة (3) بشأن اتخاذ جميع التدابير المناسبة لضمان تطوّر المرأة وحمايتها في النزاعات.
- مطالبة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي إلى تبني مواقف دبلوماسية قوية ومعلنة تدين الانتهاكات بحق النساء الفلسطينيات، وتجميد التعاون الأمني والعسكري مع سلطات الاحتلال.
- دعوة مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات النسوية العالمية إلى التضامن مع النساء الفلسطينيات، وإطلاق حملات دولية للمناصرة، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والحقوقي للضحايا، مع التأكيد على ضرورة دمج النساء في آليات رصد الانتهاكات والمساءلة.
- مطالبة وسائل الإعلام الدولية والمحلية بتكثيف التغطية الموضوعية لحالة النساء في فلسطين، وعدم اقتصار الخطاب على الجوانب الإنسانية فحسب، بل الإضاءة على الجوانب القانونية والجرمية في سلوك الاحتلال.
- دعوة شعوب العالم الحر إلى عدم الصمت، وممارسة الضغوط من خلال الحكومات والمؤسسات، لأن كرامة النساء الفلسطينيات ليست شأناً محليًا، بل اختبارًا إنسانيًا عالمياً لجدية الالتزام بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة
خاتمة
إن ما تتعرض له النساء والفتيات الفلسطينيات اليوم، في سياق عدوان عسكري طويل الأمد واحتلال مستمر، ليس مجرد تدهور في وضع إنساني، بل هو انعكاس عميق لفشل المنظومة الدولية في حماية أبسط حقوق الإنسان عند تقاطعها مع الجغرافيا السياسية. حين تغتصب الكرامة، وتكمم الحقيقة، وتختزل المرأة الفلسطينية في رقم في تقارير الضحايا، تصبح الحاجة إلى عدالة شاملة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. إن صمت المجتمع الدولي أمام هذه الجرائم لا يفسر إلا كتواطؤ صريح أو عجز مؤسسي. لذلك، فإن مركز “شمس” يؤكد أن حماية النساء ليست التزاماً قانونياً فحسب، بل هي معيار أخلاقي يقاس عليه صدق التزامات الدول والمجتمع الدولي تجاه مبادئ الإنسانية. إن استمرار الإفلات من العقاب وتغييب المساءلة عن الانتهاكات المرتكبة بحق النساء الفلسطينيات، يقوض كل ما دعت إليه المواثيق الدولية من سلم وأمن وكرامة. وعليه، فإن إنهاء الاحتلال وتوفير الحماية الدولية الفاعلة والعادلة للنساء والفتيات الفلسطينيات، ليس مجرد استحقاق حقوقي، بل هو الخطوة الأولى نحو عدالة تاريخية طال انتظارها.
وإزاء هذا المشهد الدموي المستمر، لا تكفي الإدانات الخطابية ولا التوصيات المعنونة بالتعاطف. إن ما تحتاجه النساء الفلسطينيات اليوم هو فعل دولي حازم، وخطوات قانونية ملزمة، تضع حداً لهذا النظام من الانتهاكات الممنهجة التي ترقى، في كثير من جوانبها، إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما يعرفها القانون الدولي. لا يجوز للمجتمع الدولي أن يواصل تجاهل نداءات الضحايا، أو أن يكتفي بتقارير وإحصاءات تُركن في أدراج الأمم، بينما الواقع الميداني يزداد سوءًا. الصمت لم يعد حيادياً؛ إنه موقف، والموقف اليوم إما أن يكون مع الضحايا أو مع الجناة.
إن مركز “شمس”، وإذ يرفع صوته بهذه الورقة، فإنه لا يكتفي بالتوثيق ولا بالمناشدة، بل يسعى لفتح مساحات حقيقية للضغط والمحاسبة والمرافعة من أجل إحقاق العدالة للنساء الفلسطينيات. يدعو المركز إلى تفعيل الأدوات القانونية المتاحة، واستثمار الوضع القانوني لدولة فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، وكموقع على عديد الاتفاقيات الدولية، من أجل إحالة الملفات المتعلقة بالعنف ضد النساء والفتيات إلى المحاكم الدولية المختصة، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية، وتفعيل إجراءات التحقيق والمساءلة تجاه من يوجه أو ينفذ هذه الانتهاكات، سواء كانوا مسؤولين سياسيين أو عسكريين أو ميدانيين.ولأن العدالة لا تتجزأ، فإن حماية النساء في النزاعات ليست امتيازاً ممنوحاً، بل حق أصيل تكرسه المواثيق الدولية، وتفرضه القيم الأخلاقية. لذلك فإن استمرار إفلات الاحتلال من العقاب، في الوقت الذي تنتهك فيه كرامة المرأة الفلسطينية يومياً، يمثل خذلاناً دولياً، لذا فإن حماية النساء ليست خياراً سياسياً، بل واجب قانوني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل.