تقرير حول الانتهاكات الممنهجة للحق في التعليم بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان

العضو الاستشاري لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة

العضو المراقب لدى اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان التابعة لجامعة الدول العربية

تقرير  

أدوات الاحتلال لتدمير التعليم في فلسطين:

 تقرير حول الانتهاكات الممنهجة للحق في التعليم بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان

رام الله

21/6/2025

الفهرس

  الموضوع الصفحة
1 مقدمة 3-5
2 طلبة غزة والتغييب القسري عن امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) 6-7
3 الحق في التعليم في إطار القانون الدولي

·        الحق في التعليم استناداً للقانون الدولي لحقوق الإنسان

·        الحق في التعليم استناداً للقانون الدولي الإنساني

·        أركان الحق في التعليم – وفق مبادئ كاترينا توماسيڤسكي

·        التزامات الدول تجاه الحق في التعليم

·        الحظر الصريح للتمييز في التعليم

·        دور الآليات الدولية في مراقبة تنفيذ الحق في التعليم

8-10
4 التزامات سلطات الاحتلال بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان

·        الالتزامات القانونية الناشئة عن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني

·        حماية المناهج والهوية الثقافية والتعليمية

·        سريان قانون حقوق الإنسان أثناء الاحتلال

·        حماية الأطفال أثناء النزاعات المسلحة

·        المسؤولية القانونية والمساءلة الدولية

11-12
5 انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق التعليم في فلسطين

·        استهداف الطلبة

·        الكوادر التعليمية

·        الاعتداءات على المدارس والجامعات

13-14
6 إغلاق مدارس الأونروا في القدس: انتهاك صارخ للحق في التعليم 14-15
7 الآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عن تدمير العملية التعليمية 16
8 التوصيات 17-19
9 الخاتمة 20-21

مقدمة

في إطار متابعته المستمرة لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، أعد مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس” تقريراً بعنوان (أدوات الاحتلال لتدمير التعليم في فلسطين : تقرير حول الانتهاكات الممنهجة للحق في التعليم بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان )هذا التقرير لتسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة والممنهجة التي تطال الحق في التعليم في الأرض الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً في قطاع غزة. ويوثق التقرير حجم الأضرار البشرية والمادية التي لحقت بالطلبة والمعلمين والمؤسسات التعليمية، نتيجة للعدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023. ويهدف مركز “شمس” من خلال هذا التقرير إلى إبراز الأبعاد القانونية والإنسانية لتلك الانتهاكات، ومطالبة المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لضمان حماية الحق في التعليم، ومساءلة سلطات الاحتلال عن جرائمها بحق الأطفال والطلبة والمدارس.

من هنا يشكل التعليم أحد الركائز الأساسية التي تنهض عليها المجتمعات الإنسانية، ليس بوصفه حقاً فردياً فقط، بل أيضاً كأداة مركزية لتحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ قيم المواطنة، وبناء مستقبل آمن للأجيال. وانطلاقاً من هذا المفهوم، بات الحق في التعليم معترفاً به كأحد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأساسية التي لا يجوز المساس بها، حتى في أوقات النزاع المسلح والاحتلال. فقد كرست المواثيق الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، هذا الحق باعتباره غير قابل للتقييد أو الإلغاء، وتلتزم الدول أطراف الاتفاقيات الدولية باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان تمتع جميع الأفراد به دون تمييز، بما يشمل توفير التعليم الإلزامي المجاني، وتسهيل الوصول الآمن للمؤسسات التعليمية، وحماية الطلبة والمعلمين من أي شكل من أشكال الاستهداف أو الإقصاء.

إلا أن الواقع الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة، يظهر صورة مغايرة ومؤلمة لهذا الالتزام الدولي، حيث يواجه الطلبة الفلسطينيون ظروفاً استثنائية تتسم بالعنف المنهجي، والحصار المستمر، والانتهاكات اليومية التي تطال كل مقومات الحياة، وفي مقدمتها التعليم. فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، لم تعد المدارس في غزة مجرد مؤسسات تعليمية، بل تحولت إلى أهداف عسكرية، وملاجئ للنازحين، وأحياناً إلى مقابر جماعية تحت الأنقاض. كما دمرت مئات المدارس بشكل كامل أو جزئي، وحرم مئات الآلاف من الطلبة من حقهم في التعليم، سواء بسبب تدمير البنية التحتية، أو النزوح، أو فقدان المعلمين/ات.

هذا الواقع الكارثي لا يمثل فقط أزمة تعليمية، بل هو تجسيد لانتهاك مركب للحق في الحياة، والحق في الكرامة، والحق في التعليم، تتقاطع فيه أدوات الاحتلال مع ضعف الحماية الدولية وانعدام المساءلة. فما يتعرض له طلبة المدارس الفلسطينيون في قطاع غزة لا يمكن فهمه بمعزل عن الإطار القانوني الدولي، الذي يحمل سلطات الاحتلال التزامات محددة ومباشرة تجاه السكان المدنيين، لا سيما الأطفال. فبموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وتحديداً المادة (50) منها، تلتزم قوة الاحتلال بضمان استمرار التعليم، وتوفير الحماية للمؤسسات التعليمية، وعدم عرقلة وصول الطلبة إلى مدارسهم. كما أن اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، والتي تعد إسرائيل طرفاً فيها، تنص على وجوب حماية الأطفال من آثار النزاع المسلح، وتمكينهم من التمتع الكامل بحقوقهم الأساسية، وعلى رأسها التعليم.

إن التدمير الممنهج للمدارس، واستهداف المعلمين والطلبة، وتحويل البيئة التعليمية إلى فضاءٍ للخوف والدمار، يعد انتهاكاً صارخاً لهذه الالتزامات، ويهدد حاضر ومستقبل جيل كامل من الفلسطينيين. والأخطر من ذلك أن هذا الحرمان من التعليم لم يكن ظرفاً عابراً أو طارئاً، بل أصبح سمة مستمرة ترافق الحياة التعليمية في غزة منذ أكثر من عقد ونصف، ما يفرض مسؤوليات متزايدة على المجتمع الدولي، ومؤسسات حقوق الإنسان، ومنظومة الأمم المتحدة، ليس فقط للإدانة، بل للمساءلة الفعلية والتحرك العاجل لحماية التعليم بوصفه حقاً إنسانياً لا يمكن تجزئته أو تأجيله.

من هنا، تبرز أهمية تسليط الضوء على الحق في التعليم لطلبة المدارس الفلسطينيين في غزة في ظل العدوان، ليس بوصفه مجرد مطلب إنساني، بل كقضية قانونية وأخلاقية وسياسية في آن، توجب مساءلة دولة الاحتلال، وتستلزم تدخلاً دولياً فعالاً يضمن وقف الانتهاكات، وجبر الضرر، وإعادة بناء المنظومة التعليمية الفلسطينية على أسس من العدالة ، والكرامة الإنسانية.

في عالم يفترض أنه يخطو بثبات نحو تحقيق العدالة والمساواة، ما يزال ملايين الأطفال في مناطق النزاع حول العالم يحرمون من أبسط حقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها الحق في التعليم. ويتجلى هذا الحرمان بأشد صوره في السياق الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، الذي يعيش منذ سنوات طويلة تحت حصار خانق، ويتعرض في فترات متكررة لعدوان عسكري مدمر، ولا بين طفل ومعلم. وفي خضم هذا المشهد الدموي المستمر، يتحول التعليم من وسيلة أمل وبناء، إلى عنوان للألم والخسارة والانقطاع.

إن التعليم في الحالة الفلسطينية، وتحديداً في غزة، لا يقاس فقط بعدد المدارس أو الكتب أو المعلمين، بل يقاس بدرجة الإصرار على مقاومة المحو الثقافي والتهميش المنهجي. فطلبة المدارس الفلسطينيون، في ظل هذا الواقع، لا يحملون فقط حقائبهم ودفاترهم، بل يحملون على أكتافهم عبء النجاة في بيئة مشبعة بالخوف والدمار. وما نشهده اليوم من تدمير واسع للمدارس، واستهداف متكرر للمؤسسات التعليمية، وحرمان مئات الآلاف من الأطفال من مواصلة تعليمهم، إنما هو انتهاك مزدوج إنه انتهاك لحق الإنسان في التعليم، وانتهاك لكرامة الطفولة وحرمتها.

لم يعد الحديث عن التعليم في غزة حديثاً عن تطوير المناهج أو تحسين جودة التعليم، بل أصبح مرتبطاً أولاً وأخيراً بقدرة الطفل على البقاء حياً، وعلى الوصول الآمن إلى مدرسته، إن بقيت المدرسة قائمة أساساً. وفي ظل العدوان الأخير، أصبحت الكثير من المدارس إما أنقاضاً أو ملاجئ مؤقتة للنازحين، بينما تلاشت ملامح الحياة التعليمية من أغلب المناطق، وباتت صور المقاعد الفارغة والحقائب المتناثرة تحت الأنقاض أكثر تعبيراً من أي تقارير رسمية أو مؤشرات رقمية.

إن أهمية تسليط الضوء على هذا الموضوع لا تنبع فقط من حجم المأساة، بل من ضرورة استعادة المعنى الحقيقي للتعليم كحق لا يمكن تعليقه أو تهميشه مهما كانت الظروف. فالتعليم ليس ترفاً يؤجل حتى تهدأ الحروب، بل هو فعل مقاومة يومي، وركيزة أساسية لاستعادة الحياة في ظل الحصار والموت والاقتلاع. إن الطفل الفلسطيني، حين يجلس على مقعد الدراسة، لا يطلب امتيازاً، بل يطالب بحقه الطبيعي بأن يحلم، وأن يتعلم، وأن يشارك في بناء مستقبله كباقي أطفال العالم.

من هنا، يأتي تقرير مركز “شمس” كمحاولة لفهم الأبعاد القانونية والإنسانية لانتهاك حق التعليم في قطاع غزة، وفي عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسليط الضوء على التجاوزات الواقعة بحق الطلبة والمعلمين والمؤسسات التربوية، في ظل غياب المحاسبة، واستمرار سياسات العقاب الجماعي. كما يسعى هذا التقرير إلى تحليل السياق الميداني والآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عن تدمير العملية التعليمية، وتقديم توصيات عملية تساهم في تعزيز الحماية لهذا الحق، ورفع صوت المتضررين في المحافل الحقوقية الدولية، والدفع باتجاه تحرك فعلي يضمن استمرارية التعليم كحق غير قابل للمساومة أو التأجيل، حتى في أكثر اللحظات قسوة وظلمة.

طلبة غزة والتغييب القسري عن امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، أصبح مشهد امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي) هذا العام مشوباً بالحزن والفراغ، لا سيما مع غياب طلبة غزة القسري عن المشاركة فيه لأول مرة منذ عقود. ففي الوقت الذي كانت فيه قاعات المدارس في الضفة الغربية تستعد لاستقبال الطلبة وسط إجراءات تنظيمية دقيقة، كانت المدارس في غزة إما مدمرة بالكامل، أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين، أو باتت خارج نطاق الاستخدام بسبب انعدام الأمن، وغياب الحد الأدنى من الظروف اللازمة لأي عملية تعليمية أو تقييمية.

لم يكن غياب طلبة غزة عن التوجيهي قراراً إدارياً عادياً، بل نتيجة مباشرة لكارثة إنسانية وتعليمية غير مسبوقة. فقد أدى القصف الإسرائيلي الممنهج إلى استشهاد الآلاف من الطلبة والمعلمين، وتدمير مئات المدارس، وتهجير أكثر من مليون ونصف فلسطيني داخل القطاع، كثير منهم من الطلبة في المرحلة الثانوية. وبالتالي، لم تعد أولوية الطلبة في غزة التحضير لامتحانات مصيرية، بل النجاة، والبحث عن مأوى، وتأمين الحد الأدنى من الحياة في ظل الحصار والدمار.

في مشهد يختلط فيه الصمت بالحسرة، والغضب بالصبر الجليل، يسجل في سجل الوجع الفلسطيني فصل جديد من الفقد، عنوانه هذه المرة التغييب القسري لطلبة غزة عن امتحان الثانوية العامة (التوجيهي). ففي الوقت الذي يفترض فيه أن يمثل هذا الامتحان محطة مفصلية في حياة الطلبة، ومناسبة وطنية تعبر عن طموح الجيل الجديد نحو المستقبل، يأتي العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة ليجتث هذه اللحظة من وجدان آلاف الطلبة، ويحيل أحلامهم إلى ركام تحت أنقاض مدارسهم، ومقاعدهم، ودفاترهم .

لقد شكلت امتحانات التوجيهي في الوعي الجمعي الفلسطيني رمزاً للثبات والبقاء، لا مجرد استحقاق أكاديمي، بل طقساً وطنياً يصر فيه الفلسطيني على مواصلة مسيرة العلم رغم الاحتلال والجدران والقنابل. غير أن ما شهدناه في صيف العام 2025، حين غابت غزة قسراً عن هذا الطقس الجماعي، لم يكن مجرد غياب عن الامتحان، بل تغييب قسري عن الحياة، عن الحق، عن الأمل. لقد غيب أكثر من (39) ألف طالب وطالبة قسراً عن مقاعد الامتحان، لا بإرادتهم ولا بسبب تقصيرهم، بل لأن آلة الحرب قررت أن تطفئ كل ما في غزة من نور، بما في ذلك نور العقول والآمال الشابة.

ما يحدث في غزة ليس تأجيلًا لموعد الامتحان، بل انقطاع قسري عن مسار طبيعي لحياة كان يفترض أن تبدأ بخطوة أكاديمية، وتمتد نحو بناء الذات والمجتمع. لقد أصبح الطالب/ة الغزي لا يحلم بالنجاح، بل بالبقاء حياً، لا يحفظ تواريخ الأدب والجغرافيا، بل يحفظ أسماء الشهداء، ومخارج الطوارئ، ومواضع القصف القريب. المدارس تحولت إلى ملاجئ، والكتب إلى وسائد، وصوت الانفجارات هو الخلفية اليومية لأية محاولة للقراءة أو الاستيعاب. لم يعطَ هؤلاء الطلبة خياراً، بل سلب منهم الحق، ومسحت الحدود بين الطفولة وساحات الحرب.

وما يزيد من مأساوية هذا التغييب أنه لم يقابل حتى الآن بخطاب رسمي أو دولي يرقى إلى حجم الجريمة. فلا خطط طوارئ تذكر، ولا بدائل تعليمية ملموسة، ولا تعويض نفسي أو معرفي لهؤلاء الطلبة الذين ضاع عامهم، وربما أكثر، في فراغ قاتل لا يحفل بالعدالة. والنتيجة ليست فقط خسارة تعليمية، بل جرح مفتوح في الذاكرة الجماعية، ورسالة واضحة مفادها أن استهداف المستقبل الفلسطيني بات سياسة ممنهجة.

من هنا، فإن الحديث عن تغييب طلبة غزة عن امتحان الثانوية العامة ليس وصفاً لواقعة عابرة، بل تشريح لسياسة عدوانية تسعى لتفكيك أدوات النهوض الفلسطيني. إن حق هؤلاء الطلبة في التعلم، في الحلم، في بناء مستقبلهم، هو جزء لا يتجزأ من حقهم في الحياة، وإن استمرار الصمت أمام تغييبهم هو تواطؤ مع الظلم، وتكريس لمعادلة تفصل بين العدالة والأمن، وبين الحبر والبارود.

وعليه، لا بد من أن يعاد إدراج طلبة غزة في الوعي العربي والدولي كأولوية إنسانية وتربوية، وأن ينظر إلى تعليمهم ليس كملف ثانوي، بل كقضية وجود. فهم لا يطلبون صدقات أو امتيازات، بل يطالبون بحضورهم الكامل في مشهد الحياة، كما يليق بكرامتهم، بعقولهم، وبحقهم في أن يكتبوا أسماءهم لا على الجدران، بل على شهادات تليق بتضحياتهم.

امتحان التوجيهي، في السياق الفلسطيني، لا يمثل فقط بوابة عبور نحو التعليم العالي، بل هو حدث وطني واجتماعي يشارك فيه المجتمع بكامله. ولهذا فإن غياب طلبة غزة عن هذا الامتحان يُشكل جريمة مضاعفة بحقهم، إذ يحرمون من حقهم في التعليم، ومن حقهم في المستقبل، ومن فرصهم في الالتحاق بالجامعات، أو الحصول على منح دراسية، أو الانخراط في مسارات مهنية أو أكاديمية. ومما يزيد من فداحة هذا الحرمان أنه لا يقابل بخطط بديلة واضحة أو تدخلات دولية فاعلة لضمان استمرار العملية التعليمية لهؤلاء الطلبة.

إن حرمان أكثر من (39) ألف طالب وطالبة في قطاع غزة من تقديم امتحانات التوجيهي هذا العام يمثل صورة من صور العقاب الجماعي، ويكشف حجم الانتهاك المنهجي للحق في التعليم. كما يلقي هذا الواقع بظلاله على مستقبل التعليم الفلسطيني بأسره، ويستدعي تحركاً وطنياً ودولياً عاجلاً لوضع خطة إنقاذ تعليمية، وتوفير مسارات استثنائية وعادلة لطلبة غزة تمكنهم من استدراك فرصهم التعليمية، دون أن يدفعوا وحدهم ثمن الحرب والعنف والخذلان الدولي.

الحق في التعليم في إطار القانون الدولي

يعتبر الحق في التعليم من الحقوق الأساسية التي تضمن كرامة الإنسان وتعزز من قدراته على المشاركة الفاعلة في المجتمع. ويشكل هذا الحق ركيزة جوهرية لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد، كما يُعد أداة مركزية في تمكين الشعوب وتطوير المجتمعات. في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان، يحظى التعليم بمكانة محورية بوصفه حقاً ملازماً لكل إنسان، دون أي تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي.

وينظر إلى التعليم باعتباره ليس فقط وسيلة لاكتساب المعرفة والمهارات، بل كذلك كأداة للتحرر من الجهل والتهميش وتعزيز قيم المواطنة وحقوق الإنسان. ويلزم القانون الدولي الدول بتوفير بيئة تعليمية آمنة ومتاحة ومناسبة، تُمكن الأفراد من تطوير إمكاناتهم وتحقيق ذواتهم، بما ينسجم مع كرامتهم الإنسانية واحتياجات مجتمعاتهم.

ويمتد الالتزام الدولي تجاه هذا الحق ليشمل حماية المؤسسات التعليمية من الاستهداف في أوقات السلم والنزاع على حد سواء، وضمان الوصول المنصف إلى التعليم للجميع، لا سيما للفئات المهمشة والمحرومة. ومن هذا المنطلق، يُعدّ احترام الحق في التعليم مؤشرًا حاسمًا على مدى التزام الدول بمبادئ حقوق الإنسان والتنمية المستدامة.

أولاً: الحق في التعليم استناداً للقانون الدولي لحقوق الإنسان

يستند الحق في التعليم إلى عدة معاهدات واتفاقيات دولية ملزمة، أبرزها:

  1. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، المادة (26)، التي تنص على أن “لكل شخص الحق في التعليم”، وأن “يكون التعليم الابتدائي إلزامياً ومجانياً”، مع التأكيد على أن “يُوجَّه التعليم نحو الإنماء الكامل لشخصية الإنسان”.
  2. العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، في مادتيه (13) و(14)، حيث جاء تفصيل شامل لمضمون هذا الحق، بما في ذلك إلزام الدول بتوفير التعليم الإلزامي والمجاني، والعمل على جعله متاحاً وميسراً على جميع المستويات.
  3. اتفاقية حقوق الطفل 1989، في المادة (28)، التي توجب على الدول توفير التعليم الابتدائي المجاني للجميع، وتشجيع تطوير التعليم الثانوي والعالي، واتخاذ التدابير للحدّ من تسرب الأطفال من المدارس.
  4. اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، في المادة (10)، التي تلزم الدول بضمان المساواة في الوصول إلى التعليم بين الذكور والإناث.
  5. بالإضافة إلى مواثيق إقليمية مثل الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عبر البروتوكول الأول (المادة 2).

ثانياً: الحق في التعليم استناداً للقانون الدولي الإنساني

بينما يركز القانون الدولي الإنساني على حماية المدنيين أثناء النزاعات، إلا أنه يتضمن أيضاً أحكاماً تحمي العملية التعليمية، وخاصة الأطفال والمدارس، وذلك ضمن المبادئ الأساسية المكرسة في:

  1. اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، التي تنص في المادة (50) على أنه “ينبغي على سلطات الاحتلال أن تيسر العمل السليم للمؤسسات المكرسة لرعاية وتربية الأطفال”.
  2. كما تنص المادة (94) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 على أهمية استمرار التعليم في حالات الاحتلال أو النزاع المسلح، داعية إلى اتخاذ كل التدابير الممكنة لضمان تعليم الأطفال.

ثالثاً: أركان الحق في التعليم – وفق “مبادئ كاترينا توماسيڤسكي

قامت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في التعليم، “كاترينا توماسيڤسكي”، بتحديد أربعة أركان أساسية يجب أن تتوافر جميعها لضمان فعالية الحق في التعليم، وهي:

  1. الإتاحة: أي أن توفر الدولة عدداً كافياً من المؤسسات التعليمية والمعلمين والبنى التحتية، إلى جانب المواد التعليمية.
  2. إمكانية الوصول: ويجب أن يكون التعليم متاحاً لجميع الفئات دون تمييز، وخاصة الفئات المهمشة مثل الأطفال، النساء، ذوي الإعاقة، وسكان المناطق الريفية. كما يشمل ذلك ضمان التعليم المجاني، وتسهيل الوصول الجغرافي والاقتصادي له.
  3. القبول: أي أن تكون المناهج التعليمية والمحتوى الدراسي مقبولة ثقافيًا واجتماعيًا، وتحترم كرامة المتعلّم، وتعزز حقوق الإنسان.
  4. الملاءمة: أي أن يكون النظام التعليمي مرنًا بما يسمح بالتكيف مع الاحتياجات المتغيرة للمتعلمين والظروف المجتمعية.

رابعاً : التزامات الدول تجاه الحق في التعليم

يلقي القانون الدولي لحقوق الإنسان على عاتق الدول ثلاث مجموعات من الالتزامات:

  1. الاحترام: عدم التدخل في ممارسة الأفراد لهذا الحق، كعدم تقييد حرية الوصول إلى المدارس أو فرض أيديولوجيات محددة.
  2. الحماية: منع أطراف ثالثة (كالقطاع الخاص أو الجماعات المسلحة) من التعدي على هذا الحق، وضمان بيئة تعليمية آمنة.
  3. الإنفاذ: أي اتخاذ إجراءات فعلية، سياسية وتشريعية، لضمان تمكين جميع الأفراد من التمتع بالحق في التعليم، من خلال تخصيص الموارد وبناء المؤسسات ووضع سياسات تعليمية عادلة

خامساً: الحظر الصريح للتمييز في التعليم

يشدد القانون الدولي على مبدأ عدم التمييز كعنصر جوهري في التمتع بالحق في التعليم. فالمادة (2) من العهد الدولي تنص على وجوب تمتع جميع الأفراد بالحقوق المنصوص عليها فيه “دون أي تمييز من أي نوع”. ويشمل ذلك التمييز القائم على الجنس، الأصل القومي، الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي، اللغة، الدين، أو الإعاقة. ويُعد أي شكل من أشكال التمييز في الحصول على التعليم انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.

سادساً: دور الآليات الدولية في مراقبة تنفيذ الحق في التعليم

تتولى عدة آليات دولية رصد مدى التزام الدول بالحق في التعليم، من أبرزها:

  1. اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (CESCR)، التي تصدر ملاحظات ختامية وتوصيات بشأن تقارير الدول.
  2. المقررون الخاصون بالأمم المتحدة، الذين يقدّمون تقارير سنوية لمجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة بشأن انتهاكات التعليم.
  3. الاستعراض الدوري الشامل (UPR)، الذي يقدم تقييمًا دورياً لحقوق الإنسان، ومن ضمنها التعليم، في جميع الدول الأعضاء.

التزامات سلطات الاحتلال بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان

تعد الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس ، أراضي واقعة تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ عام 1967. وبموجب أحكام القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تصنف إسرائيل كـ”سلطة احتلال”، ما يرتب عليها التزامات قانونية صارمة تهدف إلى حماية السكان المدنيين، خاصة الأطفال، وضمان استمرار الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها التعليم.

أولاً: الالتزامات القانونية الناشئة عن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني

تنص اتفاقية جنيف الرابعة، في مادتها (50)، على التزام سلطة الاحتلال بتسهيل العمل السليم لكافة المؤسسات المخصصة لرعاية وتعليم الأطفال. ويمتد هذا الالتزام ليشمل حماية البنية التحتية التعليمية والمعلمين والمناهج الدراسية من أي تدخل أو تعطيل. ويترتب على ذلك مسؤولية قانونية مباشرة على سلطات الاحتلال لضمان استمرارية العملية التعليمية وجودتها.

كما تنص المادة (53) من الاتفاقية ذاتها على حظر تدمير الممتلكات الخاصة إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى، وهو ما لا ينطبق على أنماط الاستهداف الممنهجة للمؤسسات التعليمية في الأراضي الفلسطينية. وتؤكد المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن حماية التعليم من الهجمات (إعلان المدارس الآمنة) على ضرورة تحييد المدارس عن أي استخدام عسكري، واعتبار أي استخدام من هذا النوع انتهاكاً للحق في التعليم وتهديدًا مباشرًا لأمن الطلبة والمعلمين.

ثانياً: حماية المناهج والهوية الثقافية والتعليمية

يحظر القانون الدولي الإنساني على سلطة الاحتلال التدخل في المضامين الثقافية والوطنية للمناهج الدراسية. وقد نصت المادة (27) من اتفاقية جنيف الرابعة على وجوب احترام “الديانة، والأخلاق، والعادات، والتعليم” للسكان الواقعين تحت الاحتلال. وبالتالي، فإن محاولات سلطات الاحتلال فرض مناهج بديلة أو حذف مضامين وطنية فلسطينية من المناهج تعد انتهاكاً واضحاً لالتزاماتها القانونية الدولية.

ثالثاً: سريان قانون حقوق الإنسان أثناء الاحتلال

رغم أن القانون الدولي الإنساني يعد القانون الأساسي الواجب التطبيق في سياق الاحتلال، فإن قانون حقوق الإنسان يظل سارياً كذلك، وفق ما أكده الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل عام 2004. وطبقاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا سيما المادة (13)، فإن سلطات الاحتلال ملزمة بضمان الحق في التعليم دون تمييز، ويُعد أي تعطيل ممنهج أو منع للطلبة والمعلمين من الوصول إلى المدارس، أو تقييد تنقلهم، انتهاكاً لهذا العهد.

رابعاً: حماية الأطفال أثناء النزاعات المسلحة

تلتزم إسرائيل أيضاً بتطبيق اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، والتي تنص في مادتها (28) على الحق في التعليم، وفي مادتها (38) على حماية الأطفال من آثار النزاعات المسلحة. وبناءً عليه، فإن أي استهداف مباشر للمدارس، أو اعتقال أطفال من محيطها، أو عرقلة وصولهم الآمن إليها، يُشكل انتهاكًا خطيرًا لهذه الاتفاقية، كما يُعد خرقًا لإعلان المدارس الآمنة.

خامساً: المسؤولية القانونية والمساءلة الدولية

تتحمل دولة الاحتلال المسؤولية القانونية الدولية عن أية انتهاكات جسيمة أو ممنهجة للحق في التعليم في الأراضي المحتلة. وقد تُصنّف بعض هذه الانتهاكات ضمن جرائم الحرب بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة إذا ثبت وجود استهداف متعمد للمؤسسات التعليمية، أو استخدام الأطفال في النزاعات، أو انتهاج سياسة حرمانهم من التعليم. ويحق للسكان المدنيين والمنظمات الحقوقية، استنادًا إلى القواعد الدولية، التوجه إلى الآليات الدولية المختصة، بما في ذلك مجلس حقوق الإنسان، والإجراءات الخاصة للأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، للمطالبة بمساءلة سلطات الاحتلال.

أخيراً فإن التزامات إسرائيل كسلطة احتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة تلزمها قانوناً بضمان حماية العملية التعليمية ومكوناتها كافة، وعدم المساس بالبنية التحتية، أو التدخل في المضامين الثقافية والوطنية للتعليم، أو تقييد حرية التنقل والوصول إلى المؤسسات التعليمية. وكل مخالفة لهذه الالتزامات تشكل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي، وتستوجب المساءلة والمحاسبة أمام الهيئات القضائية الدولية المختصة.

انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق التعليم في فلسطين

أظهرت الإحصاءات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم بتاريخ 17 حزيران 2025 حجم الكارثة التي ألمّت بالقطاع التعليمي الفلسطيني نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل. فقد وثّقت الوزارة ارتكاب قوات الاحتلال انتهاكات جسيمة ومنهجية بحق الطلبة والمعلمين والمؤسسات التعليمية، بما في ذلك المدارس والجامعات، وذلك خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر 2023 وحتى 17 يونيو 2025. وتوزعت هذه الانتهاكات على مختلف المناطق، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، مخلفة خسائر بشرية فادحة في الأرواح، إلى جانب أضرار مادية واسعة النطاق طالت البنية التحتية التعليمية وأثرت بشكل مباشر على استمرارية العملية التعليمية وجودتها

1.    استهداف الطلبة

في الضفة الغربية، استشهد (102) طالباً من طلبة المدارس وأُصيب (681) آخرون، فيما اعتقل الاحتلال (358) طالباً. أما في الجامعات، فقد استشهد (35) طالباً وأُصيب (216) على الأقل، وتم اعتقال أكثر من (396)طالباً. أما في قطاع غزة، فقد استشهد أكثر من (15,379) طالباً  من طلبة المدارس،وأُصيب (23,105) آخرون، في حين استشهد(1,091) طالباً جامعياً وأُصيب (2,269). ولم تسجل أرقام دقيقة حول أعداد المعتقلين في القطاع.

2.    الكوادر التعليمية

في الضفة الغربية، استُشهد (4) من الكوادر التعليمية في المدارس، وأُصيب (21) آخرون، فيما تم اعتقال (179)على الأقل، فقد تم اعتقال (17) من أعضاء الهيئات التدريسية دون توفّر معلومات دقيقة حول عدد الجرحى أو الشهداء.

وفي قطاع غزة، استشهد (691) من كوادر التعليم في المدارس وأُصيب (2,926)، كما استُشهد (219) من كوادر الجامعات وأُصيب (1,416)، بينما لا تزال أعداد المعتقلين مجهولة.

3.    الاعتداءات على المدارس والجامعات

في الضفة الغربية

تعرضت (152) مدرسة للاعتداء والتدمير، بما يشمل تدمير أسوار مدارس في مناطق مثل جنين وطولكرم، وبرقين وكفر الديك ضمن مديرية تربية وتعليم سلفيت. كما تم الاعتداء المتكرر على (8)  جامعات وكليات، وتعرضت لأعمال تخريب ممنهجة.

في قطاع غزة

تعرضت (241) مدرسة حكومية لأضرار بالغة، وتم تدمير أكثر من (111) مدرسة تدميراً كاملاً. كما تم استهداف (91) مدرسة حكومية و(89) مدرسة تابعة للأونروا بهجمات مباشرة أدت إلى دمار واسع. أما الجامعات، فقد تضررت (20) مؤسسة تعليم عالٍ بشكل كبير، وتم تدمير أكثر من (60) مبنى جامعي بالكامل.

إغلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي لمدارس وكالة الغوث في القدس: انتهاك صارخ للحق في التعليم

في سابقة خطيرة تعكس تصعيداً منهجياً ضد الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إغلاق (6) مدارس من مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في المدينة، ومنعت آلاف الطلبة من استئناف عامهم الدراسي، في خطوة تمثل انتهاكاً صارخاً للحق في التعليم، وتحدياً سافراً للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان. وقد طالت قرارات الإغلاق ست مدارس أساسية وثانوية تابعة للأونروا، وأُجبرت أبوابها على الإغلاق منذ الثامن من أيار/مايو 2025، ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض خدمات الوكالة وشطب ملف اللاجئين من السياق السياسي والتعليمي الفلسطيني.

تتذرع سلطات الاحتلال بأن هذه المدارس “لا تلتزم بالمنهاج الإسرائيلي” أو أنها “تبث مضامين تحريضية”، وهي ادعاءات مكررة تستخدمها إسرائيل لتبرير سياسات الإلغاء والطمس، رغم أن مدارس الأونروا تلتزم بالمناهج المعتمدة من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وتحظى بمتابعة دورية من الأمم المتحدة. لكن الحقيقة الأعمق تكمن في محاولة الاحتلال فرض مناهج بديلة تفرغ التعليم من محتواه الوطني، وتقصي الرواية الفلسطينية لصالح الرواية الصهيونية، في استهداف مباشر للهوية والوعي الجمعي.

هذا الإغلاق لا يؤثر فقط على أكثر من (2,000) طالب وطالبة كانوا يتلقون تعليمهم في تلك المدارس، بل يعرض مستقبلهم التعليمي للخطر، ويدفعهم نحو واقع من التهميش والاضطراب النفسي. كما يهدد وظائف العشرات من المعلمين والإداريين الفلسطينيين الذين يعملون ضمن كوادر الأونروا في القدس. وفي ظل غياب مدارس بديلة تستوعب هذه الأعداد، يصبح هؤلاء الطلبة في حكم “المنقطعين قسراً” عن التعليم.

من منظور قانوني، يعد هذا الإجراء انتهاكاً صريحاً للحق في التعليم كما نصت عليه المواثيق الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللذان يلزمان الدول بعدم حرمان أي فرد من الوصول إلى التعليم دون تمييز. كما يخالف هذا الإجراء التزامات إسرائيل كقوة احتلال، حيث يوجب عليها القانون الدولي الإنساني تسهيل عمل المؤسسات التعليمية، لا إغلاقها، لا سيما تلك التابعة لهيئة أممية مثل الأونروا.

إغلاق مدارس الأونروا في القدس هو حلقة جديدة في سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى تهويد المدينة، واستهداف اللاجئين، وشطب حق العودة من خلال ضرب أحد أهم رموزه وهو التعليم. وإذا ما استمر الصمت الدولي على هذه الجريمة التربوية، فإننا نكون أمام مشهد أكثر قتامة، يتم فيه اغتيال التعليم بهدوء، وتدفن فيه فرص الأجيال الفلسطينية في تقرير مصيرها، لا بالسلاح، بل بإلغاء المعرفة والوعي. لذا فإن إعادة فتح هذه المدارس، وضمان عملها بحرية واستقلالية، يجب أن يكون أولوية إنسانية وحقوقية عاجلة لكل من يزعم الدفاع عن القانون الدولي والعدالة التعليمية.

الآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عن تدمير العملية التعليمية

تعكس البيئة التعليمية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وخصوصًا في قطاع غزة، سياقاً ميدانياً بالغ القسوة، يتسم باضطراب مستمر ناجم عن الاحتلال العسكري والحصار وتكرار الاعتداءات المسلحة. لقد تحولت المؤسسات التعليمية، التي من المفترض أن تكون بيئة آمنة ومحفزة للتعلم، إلى أهداف عسكرية مدمرة، أو ملاجئ للنازحين، أو ساحات للصدمة والخوف والحرمان. هذا السياق الميداني لا يقتصر فقط على التدمير المادي للبنية التحتية، بل يمتد ليشمل انقطاع العملية التعليمية، وتهجير الطلبة، وفقدان المعلمين، وتفكك الروابط المجتمعية التي تدعم المدرسة كحيز للتنشئة الاجتماعية والوجدانية.

أدى هذا الواقع إلى آثار نفسية عميقة لدى الأطفال واليافعين، حيث يعاني الآلاف منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، ومظاهر الاكتئاب، والتبول اللاإرادي، والانطواء، وصعوبة التركيز والاستيعاب. وقد أظهرت العديد من الدراسات الميدانية في غزة أن التكرار المستمر للهجمات العسكرية، وتعرض الطلبة لمشاهد العنف والدمار، يترك آثاراً سلبية طويلة الأمد على النمو العاطفي والسلوكي، ويقوض ثقتهم بالمستقبل وبمحيطهم الاجتماعي.

على الصعيد الاجتماعي، أسفر تدمير العملية التعليمية عن خلل واضح في البنية الاجتماعية، حيث حرم الأطفال من بيئة المدرسة التي تشكل فضاءً لبناء العلاقات والتفاعل الاجتماعي وتنمية مهارات الحوار والانضباط. وبرزت ظواهر مثل التسرب المدرسي، وزواج القاصرات، والانخراط المبكر في سوق العمل، كنتيجة مباشرة لفقدان الأمل بالتعليم، وانعدام الاستقرار المعيشي، وانشغال الأسر بتأمين الحد الأدنى من مقومات البقاء. كما أدت هذه الانتهاكات إلى اتساع الفجوة بين الطلبة من مختلف المناطق، وخلق مستويات متفاوتة من التحصيل الدراسي بحسب توفر أو غياب الدعم التعليمي الطارئ.

وفي ظل هذا المشهد، تتراجع قدرة المجتمع الفلسطيني على إنتاج رأس مال بشري قادر على المساهمة في التنمية أو في الدفاع عن الحقوق الوطنية. فحرمان جيل كامل من التعليم، أو تقويض مسيرته التعليمية، يعني تدميراً ممنهجاً للموارد البشرية، ويهدد مستقبل المجتمع في نهوضه واستقراره وبنائه الذاتي. ومن هنا، فإن تدمير العملية التعليمية لا يمثل فقط انتهاكاً للحق في التعليم، بل هو شكل من أشكال العنف البنيوي، الذي يسعى إلى كسر الإرادة الجمعية وزعزعة استمرارية الوجود الفلسطيني ككيان حي ومنتج.

التوصيات

انطلاقاً من رسالته ومتابعته لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي ضد الحق في التعليم، يقدم مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس” مجموعة من التوصيات العملية إلى الجهات الوطنية والدولية، تهدف إلى تعزيز الحماية الدولية للطلبة والمؤسسات التعليمية، ووضع حد للإفلات من العقاب. تشمل التوصيات دعوة المجتمع الدولي والأمم المتحدة لتفعيل أدوات المساءلة القانونية، وخاصة من خلال المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان، وفرض عقوبات على سلطات الاحتلال لارتكابها انتهاكات جسيمة قد ترقى إلى جرائم حرب. كما يدعو المركز إلى إدراج الانتهاكات ضد التعليم في تقارير المقررين الخاصين والمعاهدات الدولية ذات الصلة، ويحث على توفير دعم عاجل لإعادة إعمار المؤسسات التعليمية المتضررة، وضمان بيئة تعليمية آمنة ومستقرة، خاصة في المناطق الأكثر استهدافاً. ويؤكد مركز “شمس” على ضرورة حماية المناهج الوطنية الفلسطينية من محاولات التشويه والطمس، وضمان حرية التعليم كحق غير قابل للمساومة تحت الاحتلال.

أولاً: للمجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة

  1. الضغط على سلطات الاحتلال الإسرائيلي لوقف جميع الانتهاكات بحق المؤسسات التعليمية، ووقف سياسة التدمير الممنهج للبنية التحتية التعليمية.
  2. تفعيل الآليات الدولية للمساءلة، خاصة المحكمة الجنائية الدولية، بشأن استهداف المدارس والطلبة والمعلمين باعتبارها جرائم حرب.
  3. ضمان توفير التمويل الطارئ لإعادة تأهيل المدارس والمؤسسات التعليمية المتضررة في قطاع غزة، ودعم برامج “التعليم في حالات الطوارئ”.
  4. تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للنظر في جرائم تغييب التعليم في غزة، وتوثيقها وفق المعايير الحقوقية.
  5. دعم مبادرة “إعلان المدارس الآمنة” وتوسيع نطاق تبنّيها ومراقبة تنفيذها في الأرض الفلسطينية المحتلة.

ثانياً: لسلطات الاحتلال الإسرائيلي (بصفتها قوة احتلال)

  1. الالتزام الفوري بمسؤولياتها القانونية بموجب اتفاقيات جنيف، بما في ذلك ضمان حق الأطفال الفلسطينيين في الوصول الآمن إلى التعليم.
  2. وقف الاعتداءات على المدارس، وعدم استخدامها لأغراض عسكرية تحت أي ذريعة.
  3. رفع القيود المفروضة على إدخال المواد التعليمية واللوجستية إلى قطاع غزة، والسماح بحرية الحركة للمعلمين والطلبة داخل وخارج الأراضي الفلسطينية.
  4. احترام المناهج الفلسطينية، وعدم فرض مناهج محرفة أو موجهة ثقافيًا بهدف طمس الهوية.

ثالثاً : لوزارة التربية والتعليم  والحكومة الفلسطينية

  1. تعزيز جهود التوثيق القانوني لانتهاكات الاحتلال بحق التعليم، وتقديم ملفات قانونية مفصلة أمام المحافل الدولية.
  2. إطلاق حملات دبلوماسية ومجتمعية واسعة لفضح سياسات الاحتلال التي تستهدف المؤسسات التعليمية وطلبة غزة.
  3. إعداد خطة وطنية شاملة لاستدراك التعليم للطلبة الغزيين المحرومين من التوجيهي والتعليم الجامعي، تشمل مسارات بديلة معترف بها إقليمياً ودولياً.
  4. تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية لتقديم الدعم النفسي والتربوي للطلبة المتضررين.
  5. العمل على تطوير إستراتيجية حماية للمدارس في مناطق التماس، بالتنسيق مع لجان الحماية الشعبية والمجتمع المحلي.

رابعاً: لوكالة الأونروا والمنظمات الإنسانية العاملة في فلسطين

  1. مواصلة العمل على استئناف التعليم في مدارس الأونروا في القدس والضغط ضد قرارات الإغلاق.
  2. تطوير برامج تعليمية بديلة ومرنة في ظل النزوح والدمار، مثل التعليم الرقمي أو الصفوف المتنقلة.
  3. تنفيذ برامج دعم نفسي اجتماعي منهجية للطلبة في غزة والضفة الغربية، خصوصًا في المناطق التي تعرضت لهجمات مباشرة.
  4. توثيق الانتهاكات بالتنسيق مع الأمم المتحدة وتقديم تقارير دورية علنية حول انتهاك الحق في التعليم.

خامساً: للمؤسسات الحقوقية والمجتمع المدني الفلسطيني

  1. الاستمرار في رصد وتوثيق الانتهاكات التعليمية بشكل منهجي وتقديمها في تقارير إلى الهيئات الدولية.
  2. إطلاق حملات إعلامية وتوعوية تسلط الضوء على حرمان الأطفال الفلسطينيين من التعليم، وتدفع نحو تعبئة تضامن دولي.
  3. التعاون مع النقابات التعليمية العالمية والمراكز البحثية لتشكيل جبهة تضامن أكاديمية مع حق الطلبة الفلسطينيين في التعليم.
  4. تعزيز مبادرات “التعليم المقاوم” داخل المخيمات والمناطق المهمشة كأداة للتصدي لسياسات الإقصاء الاحتلالية.

خاتمة

كشف هذا التقرير بوضوح أن ما يتعرض له التعليم الفلسطيني – لا سيما في قطاع غزة – لم يعد يصنف ضمن تحديات طبيعية قد تواجهها أنظمة التعليم في أوقات النزاع، بل هو نتيجة مباشرة لسياسة ممنهجة تستهدف الإنسان الفلسطيني في أهم حقوقه الأساسية الحق في التعلم، والنمو، والانتماء، والمستقبل. فالعدوان الإسرائيلي الأخير، الذي اندلع في السابع من أكتوبر 2023، لم يكتفِ باستهداف المباني والمنشآت، بل وجه نيرانه أيضاً إلى المدارس والجامعات والطلبة والمعلمين، ليُدمّر بذلك الحلم الفلسطيني بمستقبل قائم على المعرفة، ويُجهز على فرص جيل كامل في التطور والتقدم.

لقد أثبتت الأرقام الصادرة عن وزارة التربية والتعليم أن هذه الانتهاكات لم تقع في فراغ قانوني أو أخلاقي، بل في ظل وجود منظومة قانونية دولية تقر بأن الحق في التعليم لا يعلق في النزاعات، ولا يقنن بالظروف الأمنية، ولا يفرق بين طفل وآخر على أساس الهوية القومية أو الانتماء السياسي. فالمواثيق والاتفاقيات الدولية كافة – من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى اتفاقيات جنيف واتفاقية حقوق الطفل – أجمعت على أن التعليم حق غير قابل للتجزئة أو الإهمال، وأن الدول، بما فيها سلطات الاحتلال، مطالَبة باحترامه وحمايته وتيسيره. وإزاء ذلك، فإن ما تقوم به إسرائيل من تدميرٍ وتقييدٍ وحرمانٍ ممنهج للتعليم الفلسطيني يرقى إلى مستوى الانتهاك الجسيم للقانون الدولي الإنساني، ويؤسس لجرائم قد تدخل في نطاق جرائم الحرب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

إن استهداف التعليم في فلسطين، خصوصاً في غزة، لا يعبر عن ضرورات الحرب بقدر ما يجسد أداة من أدوات الصراع السياسي والاستعماري، يتم عبرها تفريغ المجتمع الفلسطيني من أدوات القوة الذاتية، وتدمير بنيته الفكرية والمعرفية. فحين يمنع الطفل من الوصول إلى المدرسة، وتهدم القاعات الجامعية فوق رؤوس الطلبة، وتفرض مناهج مشوهة في القدس، وتغلق مدارس الأونروا بذريعة “التحريض”، فإن المقصود بذلك ليس فقط محو الهوية، بل تقويض إمكانيات الشعب الفلسطيني في أن يكون فاعلاً ومؤثرًا في مجتمعه ومحيطه.

إننا في مواجهة أزمة لا يمكن حلها من خلال بيانات الإدانة وحدها، أو الاكتفاء بالشجب الدبلوماسي. بل إن الواجب القانوني والأخلاقي يفرض تحركاً عاجلاً وفعالاً من قبل المجتمع الدولي، ومؤسسات الأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية العالمية، لوضع حد لهذا النزيف التعليمي، وضمان حماية المدارس من الاستهداف، ومحاسبة دولة الاحتلال على جرائمها بحق الأطفال والطلبة والمعلمين. كما أن الواجب يقع أيضاً على عاتق السلطة الفلسطينية والمؤسسات الوطنية، لمواصلة توثيق هذه الجرائم، واستثمار الأدوات القانونية والسياسية المتاحة للدفاع عن هذا الحق الأساس، وتقديم ملفات الجرائم بحق التعليم إلى المحاكم الدولية والمحافل الحقوقية المختصة.

وفي الوقت الذي ينتزع فيه التعليم من بين أنقاض غزة، ويمنع بالقوة من القدس، يثبت الطالب الفلسطيني مرة أخرى أن التمسك بالقلم، والسعي للعلم، هو شكل من أشكال الصمود. فالتعليم في الحالة الفلسطينية لم يعد رفاهاً أو خياراً، ومعركة دفاع عن الوجود، وقناة للنجاة من مشروع الإلغاء الذي يستهدف كل ما هو فلسطيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com