محاربة العقول… طريق إلى الفناء.. بقلم/ حلمي أبو طه

في لحظة دقيقة من تاريخنا، حيث تتزاحم التحديات من كل اتجاه، يتفشى سلوك خطير في مفاصل وأركان المجتمع. هو أشبه بـ”الانتحار البطيء”: يتمثل في محاربة العقول وأصحاب الرأي. فنحن نجلد أنفسنا بأيدينا. ونمارس أبشع صور الإقصاء الذاتي حين نحارب أصحاب الرأي والفكر، لا لأنهم أخطأوا، بل لأنهم فكروا. في مجتمعات اعتادت أن ترى في الصوت المختلف خطراً، يصبح العقل عبئاً، والموقف المستقل تهمة، والمبادرة لعنة يجب سحقها. والمأساة أن هذه الحرب لا تُخاض ضد الخصوم، بل داخل كل مفاصل الحياة: داخل أطر الأحزاب والحركات السياسية، ضد أبناء الوطن، ضد الزملاء في الصف ذاته، ونفس المؤسسة والمكتب. وبدلاً من أن نلتف حول أصحاب الرؤى ونُمكّنهم، نُسرع في شيطنتهم وتجريدهم من الدور والمكانة. حيث تنشغل بعض النخب والمؤسسات لا بالبناء ولا بالتمكين، بل بممارسة جلد الذات. جلد ممنهج يبدأ بمحاربة أصحاب الرأي والفكر والمبادرة، وينتهي بإفراغ المؤسسات من الكفاءات الحقيقية. هذا معنى ما قاله أحد حكماء ومفكري غزة في هذا الزمان حين قال: “الحركة التي تحارب عقول أبنائها من أصحاب الرأي مآلها أن تأخذ شعوبها إلى الكارثة والفناء”.

في منطق الإدارة الحديثة والرشيدة، لا يُمكن لأي منظومة أن تنجح دون أن تحتضن التنوع العقلي والمعرفي داخلها. فالفكر ليس ترفاً، والرأي ليس خصماً، وإنما هو البوصلة التي تحفظ الاتجاه حين تتكاثر الضغوط وتتشابك التحديات. لكن حين يتحول الفكر إلى تهمة، والرأي إلى خيانة، نصبح أمام نمط اجتماعي لا يبحث عن الحلول، بل عن المصفقين. وهذا هو طريق السقوط الصامت، الذي تبدأ ملامحه بفقدان البوصلة، وتنتهي بانهيار الهيبة والشرعية. فأخطر ما يصيب الأمم اليوم. ليس الفقر ولا الاحتلال ولا الحروب، بل محاربة أبنائها لبعضهم، وتحديداً استهداف أولئك الذين يمكن أن يكونوا ركيزة نهوضها ووقود التغيير. فما أن يبرز شخصٌ يمتلك رؤية أو قدرة أو صوتاً مسموعاً، حتى تتكالب عليه السهام من كل حدب وصوب؛ لا لشيء سوى أن حضوره يوقظ الوعي، ويهدد صمت القطيع. وقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: “إنما أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم”.

فحين تخنق العقول ويكتم صوت الرأي، تتحول القوة إلى تهور، وتتحول الشجاعة إلى مغامرة قاتلة. وما من أمة أغلقت باب النقد إلا وفتحت على نفسها باب الانهيار. فمن أخطر ما يُهدد مستقبل أي منظومة أو مجتمع، تفشي ثقافة الإقصاء المتبادل؛ الكل يطمح لإقصاء الكل. لا أحد يحتمل الآخر، ولا أحد يرحب بمَن يملك حضوراً، أو يحمل رأياً، أو حتى مشروعاً. تلك ليست بيئة تنضج فيها القيادات والأعلام، بل مستنقع يُغرق الجميع دون استثناء. فيتحول الصراع من تنافس شريف إلى صراع بقاء على حساب الآخر. لا مكان، ولا فرصة، ولا منصب لمن يختلف، لمن يفكر، لمن ينصح. فبدل أن نستثمر في أصحاب الرأي، نُحاربهم. وبدل أن نُمكّنهم، نُفرغ مؤسساتنا ومجتمعاتنا منهم، ونُبقيها رهينة الولاءات الضيقة والانتماءات الشخصية.

التاريخ لا يرحم من كتموا العقول، من سجنوا الكلمة، فهو مليء بالشواهد: الأمم التي أطفأت أصوات العقول، أشعلت بأيديها نيران الفوضى والانهيار. فقد قال الفاروق عمر بن الخطاب وهو أحد أعظم من قادوا الحكم بعدل: “لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها”. وفي عالم اليوم، حيث تُقاس قيمة الأنظمة الدستورية، والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني.  بقدرتها على تمكين العقل لا إسكاتِه، فإن من يحارب الرأي يحارب مستقبله بيده. وقديماً قال الحكماء: “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، هو أول وهي المحل الثاني، فما قيمة الشجاعة إن لم تكن خلفها بصيرة؟ وما نفع القوة إن لم يوجّهها عقل؟

إننا في غزة وكل فلسطين: لا نحتاج إلى معجزات، بل إلى شجاعة الاعتراف بأننا في حاجة إلى العقول. شجاعة تضع حداً لثقافة “الإبعاد المنظم” و”التخوين التلقائي” لكل صاحب رأي. فالعقل الناقد إذا تم تمكينه، يمكن أن يصبح صانع فجر جديد، أما إذا قُمِع، فلن يترك خلفه سوى صدىً ميتًا. لقد آن الأوان أن ننتقل من ثقافة “الصوت الواحد” إلى ثقافة التعدد المسؤول. من تقديس الولاء الأعمى، إلى تمكين الكفاءة الصريحة. لأن البديل ببساطة هو الذهاب الجماعي نحو الكارثة… وبأيدينا.

نحتاج أن نتصالح مع العقل، ونحتضن الرأي، ونحمي الاختلاف، قبل أن نصحو على وطنٍ خالٍ من الرجال، إلا من التابعين. فليس بالضرورة أن يكون الاتفاق طريقاً للصداقة، فقد يجد العاقل في خصمه المختلف فكراً راجحاً، ورؤية مرنة، تثري الحوار وتهذب الرأي. بينما قد يلازمك من يشاطرك القرب والموقف، لكنه يفتقد أدوات الفهم ومرونة التفكير. فيعطل المسير ويفسد الرأي. فرفقة الفكر والمفكرين وإن جاءت من خصم، أسمى من صحبة الجهل وإن لبست ثوب القرب. فالرأي ليس خصماً، والنقد ليس تهديداً، بل هو بوابة الإصلاح الحقيقي.

الدول التي احترمت كل مثقفيها، واحتضنت أصحاب الفكر والرأي، فسمعت لنقادها، واستخدمت العقول بدل كسرها، هي من صنعت الفارق وقفزت إلى الأمام. فهل نستفيق قبل أن نصحو على أوطانٍ لا تسمع إلا الصدى، ولا ترى إلا الدمار والخراب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com