وهم النقاء.. د.الطيب النقر

والآن، لا بد من الالتفات إلى العلة الغائية، التي أدت إلى جنوح هذه السيدة، عن الطريق الذي رسمته لها أسرتها، “فمريومة” التي كانت قلب عائلتها يخفق بحبها، ولسانها يهتف بذكرها، من المفارقات اللافتة للانتباه، أنها أضحت تطلب جرعة ماء، فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز، فلا تجد من يجود بها عليها، لأنها فقط توخت تكفير عصبية عشيرتها، وانتقدت ولعها الزائد، بالطواف حول وثيقة نسبها الرفيع، شجرة العائلة التي يرجع رهطها، إلى نصوصها، كل ما حاولت جهة، أن تبخس حظهم منها، الفكرة الموروثة، التي سعت” مريومة”، أن تزعزع أسسها الفلسفية التي بنيت عليها، بالتشغيب، والتشويش، والهدم، والتشكيك، فمريم “الشجاعة” لم تكن تحتاج إلى المسايرة، والمداراة، والتملق، لدحض تلك الفكرة الراسخة عند آصرتها، التي كانت تنظر إلى محيطها، كما ينظر المرء إلى قلامة ظفره، فالقناعة التي لا يمكن أن ترجع عنها “كرشها وعيبتها”، أو يعتقد أنه يمكن أن يأتي عليها يوم، فتتراجع عنها، هي تباهيها بنقاء نسبها الباذخ، الذي يمضي بسرعة مطلقة، ليقترن بنسب الأنبياء، وقضية الصفاء العرقي، كانت من القضايا، التي طغت فيها الخلافات الضارية، والدعاوي المضللة، والسجالات الممجوجة، التي تصدت لها مريومة، وسفهت فيها أحلام شيعتها، كانت مريم، الأستاذة الجامعية، الواسعة المعرفة، التي تنحدر من أشهر قبائل الشمال، ترى أن القضية التي لا مجاملة فيها، ولا محاباة، هي بناء صرح المعرفة، الخالي من وهم “الأصالة” المتجذر من حواضر الحجاز، وبوادي نجد، وأودية تهامة، وأغوار اليمن،  فمريم التي حازت على أرقى الألقاب الأكاديمية، لم تكن فكرة النقاء الجيني، راسخة في نفسها، وانسجاماً مع انكارها لهذه الفكرة، تزوجت مريومة من الضابط التنفيذي الجسيم، الوسيم، وبقيت صلتها بعشيرتها، التي لفظتها، تتشظى وتتفسخ، حتى عادت إليها مضطرة، بعد عدة سنوات، فقد توفي زوجها “التوم” الحادب الحريص، في حادث حركة مروع، عادت مريومة “لبِطانة” صلتهم بها ضعيفة وواهية، لتعوق عودتها تلك، انتاجها الفكري الخصب، الذي يشجب انحطاط سياسات الهوية، ويبرهن أن مجتمعها “الهش” الذي تنتمي إليه، هو مجتمع “أثري”، مهووس باعتقادات “زائفة” تستحوذ عليه على مدار أيام السنة، كالتسلسل الجيني، وصراع الإثنيات، الذي خلف لمجتمعها، تركة ثقيلة، لا يزال إلى اليوم إرثها باقياً، لقد هيمنت عترتها على عقلها المنافح عن التنوير، ووفقت توفيقاً عظيماً لأن تدمغ صيغة حياتها بمعنى الشقاء.
سحر الرجال
هناك يقين رابض في دواخلها، بأن حياتها مملة، ومشحونة بالتكرار، رغم إنها أمست شخصية هامة ومستقلة، هي وحيدة لا شك في ذلك، لا تجد من يرّوح عن نفسها، ما يساورها من الكروب والأحزان، لقد تحملت ثريا مشاق الانفصال عن العلاقات الحميمية، التي كانت تربطها بقرابتها، لأنها وشائج منزوعة من سياقها التاريخي، فهي لقيطة،  هذه هي الحقيقة المرة، التي تجعلها ذاهلة مضطربة، متشبثة بعلبة الكوكايين، التي تأخذ منها جرعة وافية من حين إلى حين، أخبروها بها في قسوة، وفي غلظة، دون أن يخشوا عليها من العواقب، حتى تنتقل جموع من كانت تظن أنهم أهلها إلى منزل “الحاجة زينب” المشبلة العطوف، التي كانت تعتقد أنها أمها، ويضعوا أياديهم الشرهة على مملتكاتها، والمخدرات التي لا تترك قيماً إلا أفسدتها، ولا نفساً إلا أهلكتها، كانت تستبقيها ثريا الضاوية الهزيلة، وتتمسك بها، لأنها هي الأنيس الذي يعينها في وعثاء الحياة، فروتين رئيسة الإدارة المركزية لإدارة القروض بوزارة المالية، طابعه هو ما يبعث في نفسها هذا الحزن والانقباض، لأنه يخلو من الصخب والضجيج، فحياتها الخاصة، التي تنفق فيها مالها في غير موضعه، لا تظهر أنها لاهية عابثة، فمخدعها الذي كانت تستأنف فيه الجد والعمل، لم يسبق أن ولج إليه رجل، ففي الحق أن عينيها الواسعتين، لم يسبق لها أن ابتدرتهما صاعدة، متفحصة، في وجوه الرجال، فهي تمقت الرجال كما لا تمقت شيئاً آخر، لأن الرجال هم مصدر معاناتها، هي تنفق بياض يومها وهي هادئة، ساكنة، تطالع الأوارق والملفات، التي تتكدس في مكتبها الأنيق، أو مرتاعة، متولهة، من حجم الأرقام التي يتعين على وزارتها سداد أعبائها، أما  أول ليلها، فهي تقضيه في الاجتماعات الدورية، وفي جوف ليلها البهيم، يتردد رتم الموسيقى الحزينة، التي تحفزها أن تتهافت على هذا العناء، وتتردى في هذه المهالك، إذن حقا لا يوجد ما يجلو عن قلبها، أصداء حياتها الرتيبة، غير هذه البودرة البيضاء، التي لم تكن تتعاطاها بشكل قليل أو عرضي، لقد كانت ثريا تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، فتظل عاكفة على علبتها الفضية المترعة بهذه السموم، علبتها التي لا تستطيع أن تظهر حيالها الزهد والتقشف، كانت آثار النظرة السلبية لمجتمعها وأشباحها، هي التي تجعلها تقدم على شوط جديد، وتمعن في إدمان هذه السموم، وتنقاد لها، دون وعي وبصيرة، حتى حدث ذات يوم أن دخل عليها خادمها المتراصف البنية، وهي شبه غائبة عن الوعي، فأدهشها بجرأته المثيرة، وفجوره المروع اللذيذ، وقسوته التي باتت تنجذب لها، وتظهر لها الرضى والخضوع، لقد تشجعت ثريا، وأدارت ظهرها لمسحوقها الأبيض، و غدت حياتها متسقة اجتماعياً، ومنسجمة في جميع عناصرها، لم تعد ثريا تبغض معشر الرجال.
الاثنين 21/7/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com