ورقة موقف لمركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس”

التجويع كسلاح إبادة: أداة للإخضاع والتفكيك الديمغرافي

تلخص ورقة الموقف الصادرة عن مركز “شمس” تحت عنوان “التجويع كسلاح إبادة: أداة للإخضاع والتفكيك الديمغرافي”، الجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة باستخدام التجويع كسلاح منهجي لإبادة المدنيين الفلسطينيين. تستعرض الورقة الأبعاد القانونية لهذه الجريمة من خلال تحليل اتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي، مؤكدة أن التجويع ليس فقط انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، بل يرقى إلى جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية، بل وجريمة إبادة جماعية. وتوضح الورقة كيف أن سياسة التجويع تُستخدم كأداة لإخضاع المواطنين في قطاع غزة، وكسر إرادتهم، وفرض الطاعة السياسية، وتدمير الأجيال القادمة، وإحداث تغيير ديمغرافي مقصود، من خلال نشر الأمراض وسوء التغذية، خاصة بين الأطفال. كما تدعو الورقة المجتمع الدولي، والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الحقوقية، والسلطة الفلسطينية، إلى تحمل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية في وقف هذه الجريمة، ومحاسبة مرتكبيها، والضغط من أجل فتح تحقيقات دولية عاجلة، ووقف العدوان، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون قيد أو شرط.

العضو الاستشاري لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة

ورقة موقف لمركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية “شمس”

التجويع كسلاح إبادة: أداة للإخضاع والتفكيك الديمغرافي

رام الله

7/8/2025

مقدمة

منذ نشأة القانون الدولي الإنساني، وُضعت مبادئه الأساسية لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، أو الذين كفوا عن المشاركة فيها، وفي مقدمتهم السكان المدنيون. وفي قلب هذا النظام القانوني تقف قاعدة جوهرية مفادها أن الحياة الإنسانية لا يجوز أن تكون موضوع استهداف أو أداة ضغط سياسي أو عسكري، بل يجب صونها وتأمين الحد الأدنى من مقومات البقاء لها، حتى في أكثر الظروف دموية. ومع ذلك، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد ارتداداً خطيراً عن هذه القواعد، إذ لم تعد بعض أطراف النزاعات تكتفي باستخدام القوة المسلحة فحسب، بل باتت تلجأ إلى أدوات حرب غير تقليدية تمارس بصمت، وبأثمان بشرية باهظة، من بينها سياسة التجويع الممنهج.

في السياق الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، يظهر التجويع كوجه مركزي من وجوه العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل، قوة الاحتلال، بحق أكثر من مليوني مدني، معظمهم من الأطفال والنساء والمرضى، ممن يعيشون في ظروف غير إنسانية في ظل حصار طويل الأمد. لقد تحول قطاع غزة، بموجب هذا العدوان، إلى مختبر حربي وسياسي تُجرب فيه أدوات الإخضاع والتدمير الهادئ والمركب، حيث يستخدم الغذاء كوسيلة للضغط، ويمنع الدواء إلا وفق شروط الاحتلال، وتدار الحياة وفق معادلات دقيقة من الحرمان المنهجي. إن هذا الواقع لا يعبر فقط عن خرق جسيم لقواعد اتفاقيات جنيف، بل يشكل جريمة مكتملة الأركان بموجب نظام روما الأساسي، ويندرج ضمن سياسة محسوبة تستهدف بنية المجتمع الفلسطيني، صحياً واقتصادياً ونفسياً، وبشكل خاص الأجيال القادمة.

إن التجويع في قطاع غزة ليس نتيجة عرضية للحصار، بل هو فعل واعٍ ومخطط له، تجسده التصريحات الرسمية، والقرارات السياسية، والممارسات اليومية على الأرض. لقد كشفت تقارير أممية ومنظمات حقوقية دولية عن قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتطبيق سياسات منع وتقييد دخول المواد الغذائية والوقود والأدوية إلى مستويات أدنى من الحد الأدنى المطلوب للحياة، في ما وصفه البعض بـ”إدارة مدروسة للجوع”. هذه السياسة تتجاوز بمضامينها حدود الانتهاك القانوني إلى حدود الإبادة الصامتة والهندسة الديمغرافية، حيث يستهدف الإنسان الفلسطيني لا بالرصاص، بل بالحرمان، ويتم تقويض وجوده ليس بالتهجير المباشر، بل بتجفيف مقومات بقاءه.

ومن المؤسف أن هذه الجرائم ترتكب على مرأى ومسمع من العالم، في ظل تواطؤ دولي بالصمت أو العجز أو الانحياز، ما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب. ويطرح هذا الواقع تحدياً قانونياً وأخلاقياً كبيراً أمام المجتمع الدولي، والمؤسسات القضائية الدولية، ومنظومة الأمم المتحدة، التي بنيت على تعهدات واضحة بحماية المدنيين ومناهضة الجرائم الجماعية. فهل يجوز بعد كل هذا الصمت أن يبقى استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين خارج دائرة المساءلة؟ وهل يعقل أن يختزل الحق في الغذاء والماء والدواء – وهي حقوق غير قابلة للتصرف – إلى أوراق تفاوض في يد المحتل؟

إن ما تحمله هذه  الورقة لا يقتصر على استعراض قانوني لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي فحسب، بل يسعى إلى تفكيك البنية القانونية والسياسية للجريمة المركبة المتمثلة في تجويع المدنيين، وإثبات أنها ليست مخالفة منفردة، بل جزء من منظومة قمع منهجية مدروسة. كما تعالج الورقة أبعاد هذه الجريمة على المدى القصير والطويل، لا سيما فيما يتعلق بتأثيرها على الأطفال والنساء والمرضى، وعلى مستقبل المجتمع الفلسطيني برمته، باعتبار أن تجويع الأجيال هو مشروع لإبادة الهوية وتفكيك القدرة على البقاء.

وعليه، فإن هذه الورقة تسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولاً، إثبات الطابع الإجرامي والقانوني للتجويع في الحالة الفلسطينية، من خلال تحليل معمق للمواد ذات الصلة في اتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي، وثانياً، تسليط الضوء على الأبعاد السياسية والإستراتيجية لهذا السلاح الصامت، الذي تستخدمه إسرائيل لتحقيق أهداف أبعد من الحرب، وصولًا إلى إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني ديمغرافياً ونفسياً وسياسياً. وفي ظل هذا الواقع، تصبح مواجهة سياسة التجويع واجباً أخلاقياً وقانونياً ملزماً لكل من يؤمن بمبادئ العدالة الدولية، وإنصاف الشعوب المحتلة، وتجريم السياسات التي تستهدف الإنسان في صميم إنسانيته.

أولاً: التجويع كجريمة وانتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب

يعد التجويع المتعمد للسكان المدنيين من أشد الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها أطراف النزاع في سياق النزاعات المسلحة، وهو محظور صراحة بموجب القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تشكل أحد الركائز الأساسية لحماية الأشخاص المدنيين في أوقات الحرب. ووفقاً للمبادئ العامة لهذا القانون، فإن المدنيين يتمتعون بحماية خاصة من الأعمال التي تستهدف حياتهم، وكرامتهم، ووسائل بقائهم على قيد الحياة، ومن بينها الغذاء والماء والرعاية الصحية.

الإطار القانوني للتجويع في القانون الدولي الإنساني

تجرم اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشكل صريح الأعمال التي تؤدي إلى حرمان المدنيين من الموارد الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء والدواء، وذلك في المواد ( 23، 55، ،59) التي تؤكد التزام الدول الأطراف بتمكين وصول المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين، وضمان توفير الإمدادات الكافية لهم في المناطق المحتلة.

تنص المادة (23) من الاتفاقية على ما يلي( يجب على كل طرف في النزاع أن يسمح بحرية مرور جميع شحنات الأدوية والمهمات الطبية، وكذلك الأشياء الضرورية للعبادة التي تُرسل فقط للمدنيين في إقليم أي طرف من أطراف النزاع، حتى وإن كان العدو، شريطة أن يُتحقق من أن هذه الشحنات لا تحتوي إلا على هذه المواد، وأن الدولة المستلمة توافق على إدخالها).

بموجب هذه المادة، فإن التجويع لا يتمثل فقط في منع توفير الطعام، بل يشمل أيضًا عرقلة مرور المساعدات الإنسانية. يعتبر منع دخول الأغذية والأدوية للمدنيين المحتاجين – سواء داخل الدولة نفسها أو في الأراضي المحتلة – انتهاكاً صارخاً لالتزام أساسي يقع على عاتق أطراف النزاع، وهو السماح بحرية مرور الإمدادات الإنسانية اللازمة للحفاظ على حياة المدنيين.

كما تنص المادة (55) على التزامات دولة الاحتلال بتوفير الغذاء يكون على دولة الاحتلال واجب ضمان تزويد السكان في الأراضي المحتلة بالغذاء والإمدادات الطبية، بالقدر الممكن من الوسائل المتوفرة لديها.”

ويعني ذلك أن الدولة المحتلة ملزمة قانوناً ليس فقط بعدم إعاقة وصول المواد الغذائية، بل أيضًا بضمان توفرها وتوزيعها بشكل كافٍ للسكان المدنيين في المناطق التي تحتلها. أي تقاعس عن هذا الواجب – أو الأسوأ من ذلك، منع الإمدادات عن عمد – يعد إخلالاً جسيماً بالتزامات دولة الاحتلال، وقد يرقى إلى جريمة حرب بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

أما المادة (59) فتتحدث عن إغاثة السكان المدنيين في حالة النقص الحاد إذا لم تكن إمدادات السكان في الأراضي المحتلة غير كافية، فعلى دولة الاحتلال أن تقبل عمليات الإغاثة التي تقوم بها الدول الأخرى أو المنظمات الإنسانية الدولية المحايدة، وتوفر لها التسهيلات اللازمة.”

ويفهم من هذه المادة أن قبول دولة الاحتلال للإغاثة الدولية ليس مجرد خيار، بل واجب قانوني إذا ما ثبت وجود نقص في المؤن الأساسية. رفض هذه المساعدات أو منع وصولها يشكل انتهاكاً مضاعفاً؛ إذ يشكل تقاعساً عن أداء الواجب الأصيل بتأمين الغذاء، وإعاقة للجهود الإنسانية الدولية.

ثانياً: التجويع كسلاح حرب وجريمة دولية استناداً للنظام الأساسي المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية

1.    التجويع كجريمة إبادة جماعية ، استناداً للمادة (6) من نظام روما

تنص المادة (6) الفقرة (ج) على أن ( أي فعل يُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه كليًا أو جزئياً) . ويفهم من هذا النص أن التجويع المتعمد، عندما يُمارس بقصد إبادة جماعة معينة، يعد صورة من صور الإبادة الجماعية. أي أن استخدام التجويع وسيلةً لإهلاك جماعة بشرية معينة (كما في حالات تجويع جماعي منهجي على أساس قومي أو ديني أو عرقي) يدخل مباشرة في إطار المادة  (6) الفقرة (ج) ويستوجب أعلى درجات المساءلة الجنائية الدولية.وقد اعتمدت المحاكم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، هذا التفسير لتأكيد أن حرمان الجماعات من الطعام والماء والرعاية الصحية ضمن سياسات ممنهجة قد يكون مقصوداً لإبادتها المادية، وبالتالي يشكل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.

2.    التجويع كجريمة ضد الإنسانية (المادة 7 من النظام الأساسي)

تنص المادة  (7) الفقرة (1) على أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل:

أي فعل من الأفعال التالية يُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم…”وتتضمن الأفعال المشمولة في الفقرة الفرعية (ك) أفعال لا إنسانية أخرى ذات طابع مماثل تسبب عمداً معاناة شديدة أو أذى خطيرًا يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.”

في هذا السياق، يعتبر التجويع المتعمد للسكان المدنيين ضمن سياسة عامة أو هجوم ممنهج، من ضمن الأفعال اللاإنسانية التي تؤدي إلى معاناة شديدة وتهدد الحق في الحياة والصحة. وهو ما ينطبق خصوصًا عندما يتم فرض الحصار، تقييد المواد الغذائية، تدمير الأراضي الزراعية أو منع دخول المساعدات ضمن إطار سياسات منظمة تستهدف المدنيين.

وتشترط هذه المادة أن يكون الفعل جزءًا من هجوم واسع النطاق أو منهجي، وليس فعلًا فرديًا أو معزولًا. بالتالي، فإن سياسات التجويع الممنهجة، مثل تلك التي تُفرض على مناطق محاصرة أو محتلة، والتي تؤدي إلى المجاعة الجماعية، تُصنّف كـ جرائم ضد الإنسانية متى توافرت الأركان المادية والمعنوية المنصوص عليها في المادة 7.

3.    التجويع كجريمة حرب استناداً للمادة (8)

تُدرج المادة (8) من نظام روما التجويع المتعمد للسكان المدنيين بشكل صريح ضمن قائمة جرائم الحرب، حيث تنص الفقرة (25)، على أن ( تجويع المدنيين عمداً كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة الإمدادات من مواد الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف).

وهذه المادة تسجل أول تجريم واضح للتجويع كجريمة حرب في القانون الدولي الجنائي المكتوب، وتشمل:الفعل المادي: حرمان المدنيين من المواد الأساسية (طعام، ماء، دواء.القصد الجنائي: ارتكاب الفعل عمداً بهدف استخدامه كوسيلة للضغط أو العقاب أو التدمير.السياق: ارتكابه كجزء من نزاع مسلح دولي أو غير دولي.ولا يشترط أن يؤدي الفعل إلى الوفاة الجماعية كي يعتبر جريمة حرب؛ بل يكفي النية باستخدام التجويع كأداة حرب، وما يترتب على ذلك من معاناة إنسانية حادة. كما أن عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية تُعد جزءًا لا يتجزأ من هذا التجريم.وقد أُكّد هذا التجريم كذلك في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (المادة 54)، مما يعكس اتساقه مع قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي.

4.    المسؤولية الجنائية الفردية والعقوبات

يُحمل نظام روما الأساسي المسؤولية الجنائية للأفراد وليس للدول، بما يشمل القادة السياسيين والعسكريين الذين يشاركون أو يوجّهون أو يأمرون بسياسات تجويع المدنيين. ويُعتبر كل من:الفاعل المباشر؛الآمر أو المخطط؛ المتواطئ أو المساهم في الجريمة؛عرضة للملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية، طالما أن الفعل ارتُكب ضمن نطاق اختصاص المحكمة الزمني (بعد عام 2002)، والإقليمي أو الشخصي.ولا يقبل التذرع بالأوامر العليا، أو الظروف الاستثنائية، أو المصلحة الوطنية لتبرير ارتكاب هذه الجريمة، وهو ما نصّت عليه المواد (27) و(33) من النظام الأساسي.

أهداف إسرائيل من استخدام التجويع كسلاح في قطاع غزة

يشكل استخدام التجويع كسلاح ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة سياسة ممنهجة ومتعمدة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي، تتجاوز مجرد الحرمان من الغذاء لتعبر عن مشروع سياسي وعسكري موجه بدقة لتفكيك المجتمع الفلسطيني، وتحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى. هذه الممارسة، التي ترقى إلى مستوى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي، ليست عرضاً عابراً أو نتيجة جانبية للحرب، بل هي أداة إسرائيلية مقصودة ذات أهداف واضحة ومركّبة.

  1. الإضرار الصحي طويل الأمد بالأجيال القادمة كأداة لهندسة ديمغرافية موجهة:

من أخطر الأهداف غير المعلنة لاستخدام إسرائيل للتجويع الممنهج في قطاع غزة هو إحداث تدهور صحي طويل الأمد في البنية الجسدية والنفسية للأطفال الفلسطينيين، بما يؤدي إلى جيل كامل مصاب بأمراض مزمنة، سوء تغذية، وعاهات مستديمة. إن حرمان مئات الآلاف من الأطفال من الغذاء المتوازن والرعاية الصحية الأساسية في سنوات نموهم الأولى لا ينتج فقط حالات طارئة، بل يؤسس لواقع كارثي على المدى البعيد مثل انخفاض معدلات الذكاء، ضعف المناعة، أمراض الجهاز العصبي، التأخر في النمو العقلي والجسدي، والاضطرابات النفسية المعقدة. بهذا، يتحول التجويع من سياسة حرب إلى أداة بيولوجية لتفكيك قدرة الجيل الفلسطيني القادم على المقاومة، التعليم، والإنتاج.

إن هذه السياسات ليست عشوائية، بل تُشكّل شكلًا من أشكال الهندسة الديمغرافية، تنفذها إسرائيل بصمتٍ وعبر أدوات غير تقليدية، من خلال التجويع والتجفيف الصحي والتعليمي المنهجي. فخلق جيل مريض، ضعيف، معاق، يعتمد على المساعدات للعيش، هو نوع من الإبادة الصامتة التي لا تحدث ضجيجاً في وسائل الإعلام، لكنها تعيد تشكيل البنية السكانية الفلسطينية بطريقة تخدم مصالح الاحتلال. إنها محاولة لتفريغ الهوية من مضمونها الإنساني، وتحويل الإنسان الفلسطيني إلى كائن عاجز غير قادر على المشاركة في الحياة أو الدفاع عن وطنه، وبالتالي إخضاعه لا بالإبادة المباشرة، بل بالتشويه الممنهج لقدراته على الحياة.

2.    كسر الإرادة الجماعية وإخضاع السكان

أحد أبرز أهداف إسرائيل من استخدام التجويع هو كسر الإرادة الجمعية للشعب الفلسطيني في غزة، عبر الضغط اليومي على تفاصيل الحياة الأساسية: الماء، الغذاء، الدواء، الكهرباء. هذه السياسة تهدف إلى إضعاف قدرة الناس على الصمود وتحويلهم إلى مجرد أفراد يسعون وراء البقاء الجسدي، بدلًا من المقاومة السياسية أو العسكرية. وإلى تفتيت الروح المعنوية وتجريد السكان من الإحساس بالقوة والكرامة. وإلى خلق بيئة من الانهيار المجتمعي، يُصبح فيها كل شيء قابلاً للمقايضة، حتى الحقوق الأساسية.

3.    فرض الطاعة السياسية من خلال التجويع

التجويع ليس فقط أداة عسكرية بل وسيلة ابتزاز سياسي. تحاول إسرائيل من خلال سياسة الخنق الغذائي ، إجبار السكان على رفض المقاومة، عبر تحميلها مسؤولية الحصار والتجويع.فرض تسويات سياسية قسرية تحت عنوان “الهدوء مقابل الخبز”، بحيث يصبح الحق في الحياة مرهونًا بالتنازل عن الحقوق الوطنية.إعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي، عبر استنزاف أي دعم شعبي للفصائل التي ترفض الانصياع للمشاريع الإسرائيلية.

4.    التهجير القسري غير المباشر

التجويع الجماعي هو أحد أدوات الترانسفير البطيء. من خلال خلق ظروف معيشية غير قابلة للحياة، تسعى إسرائيل إلى دفع المواطنين الفلسطينيين إلى النزوح الداخلي والخارجي، وتحقيق تغيير ديموغرافي تدريجي. وإلى تفريغ المناطق الحدودية من السكان من خلال التجويع الممنهج وقطع الإمدادات. وإلى تدمير الزراعة والاقتصاد المحلي بشكل يمنع إعادة البناء، ويدفع الناس إلى البحث عن ملاذ خارج غزة.

5.    استخدام التجويع كسلاح ضغط على المجتمع الدولي

تلجأ إسرائيل إلى التجويع كذلك كأداة ضغط على المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة، عبر احتكار المعابر ومنع دخول الغذاء والمساعدات الإنسانية، بهدف ابتزاز المجتمع الدولي إنسانياً،والسماح بدخول الغذاء مقابل صمت سياسي.إعادة تشكيل دور الأونروا والمنظمات الإنسانية بما يتماشى مع مصالح إسرائيل الأمنية والسياسية. فرض سردية كاذبة مفادها أن إدخال الغذاء مرهون بسلوك “السكان المحليين”، في محاولة لتحويل الجلاد إلى وسيط.

6.    التدمير المنهجي للنسيج الاجتماعي والاقتصادي

عبر التجويع، تستهدف إسرائيل العمود الفقري للمجتمع الفلسطيني، تجويع الأطفال والنساء وكبار السن بهدف تفكيك العائلات وضرب التماسك الاجتماعي. وتدمير سلاسل الإنتاج المحلي والزراعة ومخازن الغذاء لضمان التبعية الكاملة للمساعدات الخارجية.وإضعاف التعليم والقدرة الإنتاجية عبر خلق أجيال يعانون من سوء التغذية والأمراض المزمنة.

  1. تعميق العزلة والفصل الجغرافي والسياسي

يستخدم التجويع أيضاً كجزء من إستراتيجية أوسع لعزل غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية، عبر تحويل غزة إلى غيتو مغلق لا يُسمح له بالتنفس إلا بإذن أمني إسرائيلي.فصل سياسي وجغرافي بين غزة والضفة الغربية، واستغلال هذا الانقسام لتبرير “الواقع الأمني”.إبقاء غزة كمنطقة مستنزَفة دائماً، تستخدمها إسرائيل كمسرح لتجاربها العسكرية وردعها الإقليمي.

التوصيات

أولًا: إلى المجتمع الدولي والدول الأطراف في اتفاقيات جنيف

  1. الوقف الفوري وغير المشروط لجميع أشكال الحصار والتجويع الجماعي، وضمان التدفق الكامل للمساعدات الإنسانية والغذائية والطبية إلى قطاع غزة دون عوائق.
  2. الامتثال التام لالتزاماتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تفرض على دولة الاحتلال ضمان تزويد السكان المدنيين في الأراضي المحتلة بالغذاء والدواء.
  3. اتخاذ إجراءات سياسية وقانونية عاجلة لإجبار إسرائيل على احترام التزاماتها القانونية كقوة احتلال، وإنهاء سياسة التجويع والحصار المفروضة على المدنيين.
  4. دعم إنشاء لجنة تحقيق دولية خاصة ترصد وتوثّق استخدام التجويع كسلاح حرب في قطاع غزة.
  5. الامتناع عن استخدام الغذاء والدواء كأدوات ضغط أو ابتزاز سياسي، والاعتراف الصريح بعدم شرعية سياسة التجويع تحت أي ظرف.
  6. تحمّل المسؤولية القانونية الكاملة عن نتائج سياسة التجويع، بما في ذلك الأمراض والعاهات المستديمة الناتجة عنها، خاصة في صفوف الأطفال.

ثانياً:إلى المحكمة الجنائية الدولية

  1. فتح تحقيق رسمي عاجل في جريمة التجويع كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية في سياق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استنادًا إلى المواد (6 و7 و8) من نظام روما الأساسي.
  2. إدراج سياسة التجويع ضمن الملفات ذات الأولوية في مكتب الادعاء العام، نظراً لخطورتها وآثارها طويلة الأمد على السكان المدنيين.
  3. ملاحقة المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بصفتهم الفردية، باعتبارهم شركاء مباشرين أو غير مباشرين في ارتكاب هذه الجريمة.
  4. تعزيز التنسيق مع منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية لتوفير الأدلة والشهادات التي تدعم بناء ملفات الاتهام.

ثالثاً: إلى المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية

  1. تكثيف عمليات التوثيق الميداني والانتهاكات المتعلقة بالتجويع، مع التركيز على الفئات الأكثر تضرراً (الأطفال، النساء، المرضى، كبار السن).
  2. ممارسة الضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية لتبني مواقف واضحة ضد سياسة التجويع الإسرائيلية.
  3. إصدار تقارير دورية متخصصة حول آثار التجويع في قطاع غزة، مدعّمة بالبيانات الطبية والإنسانية والاقتصادية.
  4. حماية الطواقم الإنسانية والطبية العاملة في القطاع، وتوفير الدعم القانوني لها في حال تعرضها للعرقلة أو الاستهداف.

رابعاً: إلى السلطة الفلسطينية والمؤسسات الوطنية

  1. تفعيل الجهود القانونية والدبلوماسية في المحافل الدولية لمحاسبة إسرائيل على استخدامها الممنهج للتجويع ضد المدنيين في غزة.
  2. تعزيز التنسيق مع المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان لتقديم ملفات قانونية وأدلة دامغة حول سياسة التجويع.
  3. مأسسة آليات الرصد والتوثيق الوطني للانتهاكات ذات الصلة بالتجويع والحصار، بالتعاون مع المجتمع المدني والخبراء.
  4. تنظيم حملات دولية للرأي العام بالتعاون مع الشتات الفلسطيني، لتسليط الضوء على هذه الجريمة وإبراز آثارها المدمرة على المجتمع الفلسطيني.

خاتمة

في ظل تصاعد الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب بحق المدنيين في النزاعات المسلحة، بات من الضروري عدم الاكتفاء بوصف الجرائم، بل مساءلة من يقف وراءها، وتفعيل أدوات القانون الدولي لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب. ومن بين هذه الجرائم، يبرز التجويع كسلاح صامت ولكن بالغ الفتك، يستهدف ببطء الحياة اليومية والبنية النفسية والصحية لشعب بأكمله. إن ما يحدث في قطاع غزة لا يمكن توصيفه إلا باعتباره مشروعًا استراتيجياً منظماً يستخدم التجويع كأداة لإخضاع مجتمع، وتدمير مقاومته، وتفكيك نسيجه الاجتماعي والديموغرافي.

لقد كشفت هذه الورقة، استناداً إلى المرجعيات القانونية الدولية، أن التجويع الممنهج ليس فقط انتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة، بل يشكل أيضاً جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب، بحسب ما تنص عليه المواد ذات الصلة في نظام روما الأساسي. هذه الجريمة لا تقتصر على إحداث الألم اللحظي، بل تلقي بظلالها الثقيلة على مستقبل أجيال بأكملها، وتجعل من الحق في الحياة والكرامة والمشاركة والعدالة أحلاماً مؤجلة، إن لم تكن مستحيلة.

إن استمرار هذا الواقع في ظل غياب المحاسبة الدولية، وعدم تحرك الأجهزة القضائية والأممية، يشكل صفعة في وجه العدالة العالمية، وتقويضاً لهيبة القانون الدولي. فحين يستخدم الخبز كسلاح، وتمنع المساعدات عن الأطفال، وتجفف المستشفيات من أدويتها، يجب أن يدق ناقوس الخطر في كل محفل قانوني وإنساني. إن الحياد في مواجهة هذه الجريمة ليس عدالة، بل تواطؤ بالصمت، وإن إنقاذ القانون الدولي من العجز يبدأ بمساءلة من يجرد الناس من قوتهم وأطفالهم من حياتهم.

وعليه، فإن ما خلصت إليه هذه الورقة لا يقف عند حدود التوصيف القانوني، بل يشكل نداءً عاجلاً للمجتمع الدولي، للمؤسسات القضائية، وللمنظمات الحقوقية والمدنية، بأن واجبهم لا يقتصر على التوثيق، بل يشمل الضغط، والملاحقة، وكشف النفاق القانوني، والوقوف في وجه نظام الاحتلال الذي حول الحصار إلى إستراتيجية حكم، والجوع إلى عقيدة أمنية. فالتجويع، في جوهره، ليس فقط قتلاً بطيئاً، بل محاولة لإعادة تعريف الإنسان الفلسطيني ككائنٍ مستضعفٍ لا يستحق الحياة، وهو ما يجب أن يقاوم قانونياً، سياسياً، وأخلاقياً، بكل الوسائل المشروعة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com