العدوان على غزة: بين الرواية المعلنة والحقيقة المغيّبة …!.. بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، غرق العالم في سيلٍ من التصريحات الإسرائيلية الرسمية التي تُقدّم الحرب على غزة باعتبارها “عملية دفاعية” هدفها تحرير الرهائن، وتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، وضمان أمن إسرائيل. وتبنّى كثير من المحللين السياسيين هذه الرواية، محاولين تفسير استمرار الحرب وتوسّعها من منظور صراعات داخلية إسرائيلية، بين نتنياهو واليمين المتطرف من جهة، والمعارضة واليسار من جهة أخرى، أو من زاوية بقاء حركة حماس على رأس السلطة في قطاع غزة.
غير أن هذا التفسير، وإن كان يلتقط جزءًا من المشهد، يبقى قاصرًا إلى حد كبير، لأنه يتجاهل البنية الأعمق للعدوان: توافق استراتيجي إسرائيلي على مشروع إخضاع شامل لغزة والفلسطينيين، يتجاوز الحسابات الحزبية اللحظية.

الأهداف المعلنة كغطاء سياسي: منذ اللحظة الأولى، حدّد الخطاب الإسرائيلي أهداف الحرب في ثلاثية: إعادة الرهائن، تفكيك القدرات العسكرية لحماس، وإسقاط سلطتها في غزة.
غير أن تقارير معاهد بحث إسرائيلية مرموقة، مثل معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، تكشف أن هذه الأهداف ليست سوى واجهة دعائية موجّهة إلى الداخل الإسرائيلي والرأي العام الغربي ، فالمعهد يؤكد أن “النصر” لن يتحقق إلا بترتيبات أمنية وإدارية طويلة الأمد، تضمن لإسرائيل السيطرة على غزة حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية.
هذا يعني أن الخطاب المعلن مجرد ستار لإخفاء هدف أكبر: إعادة هندسة الواقع الفلسطيني على مقاس الأمن الإسرائيلي.

الأهداف الحقيقية: إخضاع ممتدّ لا حرب مؤقتة وإنما:
1. إخضاع أمني طويل الأمد
لا تتعامل إسرائيل مع وقف الحرب كغاية نهائية، بل كانتقال إلى نمط آخر من الحرب المستمرة: سيطرة أمنية شاملة، تقسيم القطاع إلى مناطق معزولة عبر ممرات أمنية (مثل ممر موراغ)، واستمرار الضربات الوقائية متى شاءت ، هذا يعكس نية تحويل غزة إلى كيان منزوع الفاعلية، محاصر دائمًا، وتحت مراقبة عسكرية مستمرة.
2. فرض حوكمة بديلة تحت السيطرة :
البدائل التي تُطرح لما بعد حماس لا تتجاوز: إدارة عسكرية إسرائيلية، أو إدارة مدنية فلسطينية محلية تحت إشراف أمني إسرائيلي، أو إشراك أطراف عربية شكلية ، الهدف ليس بناء نظام فلسطيني سيادي، بل إيجاد سلطة بلا سلطة، تُدير الحياة اليومية لكنها عاجزة عن حماية الحقوق الوطنية أو مقاومة الاحتلال.
3. هندسة ديموغرافية وسياسية :
منذ ربيع 2025، تصاعدت سياسات التهجير الداخلي والنزوح المتكرر، إلى درجة وصفتها تقارير مجموعة الأزمات الدولية (Crisis Group) بأنها محاولة لصناعة “غزة بلا غزّيين”. يتم دفع السكان إلى مناطق ضيقة، وتجويعهم عمدًا، ومنع إعادة الإعمار، لتكريس معادلة: غزة غير قابلة للحياة، إلا إذا خضعت كليًا لشروط إسرائيل.
4. استخدام الحرب لتثبيت السلطة داخليًا :
من الناحية السياسية، تُستخدم الحرب كأداة داخلية لبقاء نتنياهو وائتلافه في الحكم. تقارير مراكز بحث غربية مثل CSIS توضح أن استمرار العدوان يمنح الحكومة غطاءً للهروب من الأزمات الداخلية، ويُصعّب على المعارضة فرض انتخابات أو محاسبة.
لكن، وهذا هو الأهم، حتى خصوم نتنياهو لا يختلفون معه في جوهر الهدف: إبقاء غزة خاضعة للأمن الإسرائيلي، وإن اختلفوا على الكيفية.

الحقائق القانونية والإنسانية :

الأرقام الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حتى نهاية تموز/يوليو 2025 مروّعة: أكثر من 60 ألف قتيل فلسطيني، وأكثر من 146 ألف جريح، ونزوح يقارب الشمول. هذا الحجم من الضحايا، إلى جانب تقارير التصنيف المرحلي لانعدام الأمن الغذائي (IPC) التي وضعت غزة كلها في مرحلتَي “الطوارئ” و“المجاعة”، يفضح أن الحرب تجاوزت استهداف حماس أو أي تنظيم مسلّح، لتصبح حربًا على مجتمع بأكمله.
القانون الدولي الإنساني واضح : التجويع كسلاح حرب جريمة، والتهجير القسري انتهاك جسيم، واستهداف البنى المدنية المحمية خرقٌ صريحٌ لاتفاقيات جنيف.
إن ربط المساعدات الإنسانية بإملاءات أمنية، أو منعها لتحقيق أهداف عسكرية، لا يندرج إلا في إطار سياسة إبادة بطيئة.

“اليوم التالي” بين الوهم والحقيقة :

في تموز/يوليو 2025، أصدر معهد الأمن القومي الإسرائيلي ورقة سياسية أكدت أن “اليوم التالي” لن يكون سلامًا أو تسوية سياسية، بل “مرحلة جديدة من الحرب بوسائل أخرى”. هذا التصريح بحد ذاته كافٍ لإدراك الحقيقة: إسرائيل لا تبحث عن إنهاء الصراع بل عن تأبيده في شكل سيطرة ، وحتى عندما وافقت حماس في 19 آب/أغسطس 2025 على مقترح هدنة عربية معدَّل لمدة 60 يومًا يتضمن إطلاق أسرى وإدخال مساعدات، لم تسارع إسرائيل إلى القبول، ما يكشف أن الرهائن أو الأمن ليسا الهدف النهائي، بل ورقة للمساومة على شروط إخضاع أشمل ، وقد أعلن اليوم مكتب نتن ياهو أن شروط اسرائيل لإنهاء الحرب لم تتغير .

من هنا، يجب قول الحقيقة كما هي:
هذه الحرب وهذا العدوان ليست مجرد نتيجة لهجوم 7 أكتوبر 2023 م أو نتيجة صراع داخلي إسرائيلي.
ليست حربًا على “حماس” وحدها، بل على الوجود الفلسطيني وحقه في تقرير المصير.
الأهداف المعلنة مجرد غطاء، بينما الحقيقة هي مشروع استعماري استراتيجي لإعادة صياغة غزة ككيان منزوع الإرادة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.

ما العمل و المطلوب فلسطينيًا ودوليًا امام هذا الوضع المعقد ؟
فلسطينيًا:
تفكيك الرواية الإسرائيلية من خلال ملف توثيقي دوري بثلاث لغات (العربية، الإنجليزية، الفرنسية) يربط الأرقام الأممية بالقانون الدولي.
بناء إدارة مدنية فلسطينية مستقلة، غير فصائلية، ترفض أن تكون واجهة لإسرائيل أو ملحقًا لمشاريع خارجية، تحت إشراف وتوجيه السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية .
استراتيجية تفاوض مشروطة: أي بحث حول الرهائن أو التهدئة يجب أن يُربط برفع القيود الإنسانية فورًا، وبضمانات دولية لعدم تكرار الحرب.
دوليًا:
آليات تحقق دولية ملزمة لإدخال المساعدات، مع “آلية استجابة تلقائية” إذا تراجعت الإمدادات عن حد IPC.
مساءلة قانونية أمام المحاكم الدولية عن استخدام التجويع والتهجير كسلاح.
اشتراط أي تمويل لإعادة الإعمار بوقف التدخلات الأمنية الإسرائيلية، لضمان أن الإعمار لا يتحول إلى ورقة ابتزاز جديدة.

ختاما: إن العدوان الإسرائيلي على غزة ليس حدثًا عابرًا، ولا مجرد انعكاس لصراع سياسي داخل إسرائيل، بل هو جزء من مشروع استعماري طويل الأمد لإخضاع الفلسطينيين وتجريدهم من أدوات الصمود والسيادة ، ما لم يُفكك هذا المشروع ويُسمّ باسمه الحقيقي، ستتكرر الحرب بأشكال جديدة، وسيبقى الشعب الفلسطيني تحت التهديد التهجير و الإبادة البطيئة.
إن إنقاذ غزة ليس فقط إنقاذًا لشعب محاصر، بل هو أيضًا اختبارٌ لمصداقية القانون الدولي وقدرته على حماية المستضعفين.
إن الصمت أو التواطؤ يعني شرعنة مشروع الإخضاع وتصفية القضية الفلسطينية تدريجيًا.
لذلك، على كل القوى الحيّة، فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، أن ترفع الصوت عاليًا: ما يجري في غزة ليس حربًا على الإرهاب، بل عدوان استعماري ممنهج، والواجب السياسي والقانوني والأخلاقي هو وقفه ومحاسبة مرتكبيه.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض 19/8/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com