معاداة السامية بين التوظيف السياسي والمغالطات القانونية.. بقلم/ المحامي علي أبو حبلة

أثار تصريح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي ربط فيه بين الاعتراف بدولة فلسطين ومعاداة السامية، ردود فعل دولية غاضبة، كان أبرزها موقف الإليزيه الذي وصف هذا الربط بـ”الدنيء” و”المبني على مغالطات”. هذا التصريح ليس مجرد زلة لسان سياسية، بل يمثل استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تحويل مفهوم معاداة السامية من سياقه التاريخي والقانوني الصحيح إلى أداة لتبرير الاحتلال وإسكات الأصوات المنتقدة لسياساته الاستيطانية والعنصرية.
أولًا: المفهوم التاريخي لمعاداة السامية
تعود جذور مفهوم معاداة السامية إلى أوروبا القرن التاسع عشر، حيث استُخدم للتعبير عن أشكال التمييز والاضطهاد ضد اليهود، وبلغ ذروته في الحقبة النازية التي ارتكبت جرائم إبادة جماعية. وقد دفعت هذه الجرائم المجتمع الدولي إلى تبني منظومة من القوانين والاتفاقيات الدولية، أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965)، لتجريم أي شكل من أشكال التمييز أو التحريض على أساس ديني أو عرقي.
ثانيًا: الخلط المتعمد بين اليهودية والصهيونية
يعمل نتنياهو ومن خلفه التيار اليميني الإسرائيلي على خلط الهوية الدينية اليهودية بالمشروع السياسي الصهيوني. وبذلك يسعى إلى تصوير أي انتقاد لممارسات إسرائيل الاستيطانية والاحتلالية على أنه عداء لليهود كجماعة دينية. هذا الخلط يتناقض مع المبادئ القانونية الدولية التي تفصل بين حماية الأديان والأقليات ومساءلة الدول عن انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني. فالنقد الموجه لإسرائيل لا يستهدف اليهودية كديانة، بل يطال سياسات الاحتلال القائمة على الاستيطان، مصادرة الأراضي، والتمييز الممنهج، وهي أفعال موصوفة بأنها جرائم حرب وفقًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ثالثًا: التوظيف السياسي للمفهوم
في السنوات الأخيرة، جرى الترويج لما يُعرف بـ”تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)” لمعاداة السامية، والذي وسّع المفهوم ليشمل أي انتقاد لإسرائيل أو وصفها بدولة فصل عنصري. هذا التوسيع تعرض لانتقادات واسعة من منظمات حقوقية وأكاديميين، معتبرين أنه يشكل تسييسًا للمفهوم وتحريفًا لجوهره، ويؤدي إلى تكميم الأفواه وتجريم التضامن مع الشعب الفلسطيني.
رابعًا: الاعتراف بفلسطين حق قانوني لا علاقة له بالعداء الديني
الاعتراف بالدولة الفلسطينية يستند إلى قواعد القانون الدولي، وعلى رأسها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 لعام 2012 الذي منح فلسطين صفة دولة مراقب، فضلًا عن قرارات مجلس الأمن التي أكدت بوضوح عدم شرعية الاحتلال والاستيطان. وعليه، فإن ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية ليس سوى مغالطة قانونية وأخلاقية تهدف إلى تجريم الحق الفلسطيني في تقرير المصير، وتكريس الحماية السياسية للاحتلال تحت غطاء الدين.
خامسًا: الموقف الأوروبي والرد على الابتزاز الإسرائيلي
الموقف الفرنسي الأخير يُعبر عن إدراك أوروبي متزايد لخطورة الانجرار خلف هذا الخلط المتعمد. إن وصف الإليزيه لتصريح نتنياهو بالدنيء، يعكس قناعة متنامية لدى الدول الأوروبية بأن تجريم التضامن مع فلسطين لا يخدم مكافحة معاداة السامية، بل يضعفها، لأنه يفرغ المفهوم من معناه الحقيقي ويحوّله إلى أداة ابتزاز سياسي.
الخلاصة
إن محاربة معاداة السامية واجب إنساني وقانوني وأخلاقي، لكنها لا يمكن أن تُختزل في حماية الاحتلال الإسرائيلي أو في تبرير سياساته العنصرية. المطلوب اليوم إعادة الاعتبار للتفريق الجوهري بين معاداة اليهود كجماعة دينية أو إثنية، وهو أمر مرفوض ومدان ومجرم بموجب القانون الدولي، وبين انتقاد إسرائيل كدولة احتلال، وهو أمر مشروع ومسنود بالنصوص والقرارات الدولية.
إن استغلال نتنياهو لهذا المفهوم لتحقيق مكاسب سياسية آنية لا يغير من الحقيقة القانونية والموضوعية: الاعتراف بفلسطين ليس معاداة للسامية، بل هو خطوة في اتجاه العدالة وإنفاذ قواعد القانون الدولي.