الصوت الندي في ميزان النقد: هل يعكس النقد شخصية الناقد؟

رائد الحواري| فلسطين

بداية أشير إلى أن “فراس حج محمد” تناول قضايا/ مسائل (نادرة) قلة من تناولها أدبيا، مثل: “طقوس القهوة المرة، دوائر العطش، كاتب يدعى إكس” وغيرها من الكتب، وها هو في كتاب “الصوت الندي” يدوّن وجهة نظره في الموسيقى والأغاني، وهذا يعد إنجازا أدبيا، لأن الأدب أكثر جاذبية للقراء والأبقى عمرا، فالموسيقى، والأغاني نسمعهما يوميا، ونمارسهما في مناسباتنا، فهما جزء من تكويننا وحياتنا، بهما نعبّر عما فينا من فرح وحتى حزن، فأجدادنا مارسوهما في طقوس موت البعل وغيابه، وها نحن نتبعهم من خلال ممارسة تلك الطقوس بشكلها الجديد، ندب الحسين وصحبه في معركة كربلاء.

وما وجود الأناشيد والتراتيل الدينية إن كانت إسلامية أم مسيحية ما هي إلا استمرار لما كان عليه أسلافنا القدماء الذي اهتموا بالغناء والعزف والرقص، من هنا يمكننا القول إن الحديث عن الأغاني في كتاب يمثل حاجة ملحة، فرغم أننا نسمعها يوميا وأكثر من مرة، إلا أن هناك شحاً في الكتب التي تتناول الغناء، من هنا تأتي أهمية ما قدمه فراس حج محمد في كتابة “الصوت الندي”.

بداية يشير الكاتب على الغلاف أن الكتاب “تأملات في الأداء والأغاني” بمعنى أنه لا يتحدث عن الغناء بصورة علمية، فنية، بل من خلال تأملات، وهذا ما أكده الكاتب في المقدمة أيضا: “لا يتخذ الكتاب الطابع البحثي العلمي في الموسيقى والغناء العربي، وإنما هي تأملات” ص11، وهذا ما جعلنا نتجاوز عن العديد من (الهفوات) التي وقع بها الكاتب ـ سنأتي على ذكر بعضها لاحقا.

هناك العديد من المحطات يتوقف عندها الكاتب منها “أم كلثوم” التي تناولها بمنظوره الشخصي، وكيف أن أغانيها مدته بطاقة عاطفية تأثر بها في أعماله الشعرية، كما توقف عند العديد من أغنياتها والشعراء الذين كتبوا لها، وأسهب في حديثه عن رباعيات الخيام التي غنتها أم كلثوم، حيث كتب عنها أكثر من عشرين صفحة، كما تناول أم كلثوم وأغانيها من وجهة نظر “إدوارد سعيد” التي رأها ظاهرة سلبية أكثر منها إيجابية.

ثم ينتقل للحدث عن فيروز من خلال قصيدة: “هي في ليلتي فيروز” التي يتغنى بها وبغنائها:

“هي آية للفن تكتب روحنا  وترا شجيا فاتنا متناغما” ص69، وهذا يشير إلى أن الكاتب تشبّع  بأغاني فيروز فكان البياض/ الفرح يعمّ القصيدة، إن كان على مستوى المضمون أم على مستوى الألفاظ، وإذا ما قارنّا بين حديثه عن أم كلثوم وفيروز، نجد أنه تناول الأولى بصورة (موضوعية) السلبيات والإيجابيات، بينما في الثانية وجدها مطلقة الإيجابية، فلم يمسّها أية خدوش، وهذا يشير إلى مكانتها الرفيعة وكمالها.

بعدها يدخلنا إلى الأغاني الوطنية والثورية من خلال الملحن الفلسطيني “مهدي حسين أبو سردانة” مبينا دوره في إشعال روح الثورة في الجماهير الفلسطينية والعربية من خلال تلحينه للعديد من أغاني الثورة الفلسطينية، كما يتوقف عند الحوار الذي تم بينه وبين “محمد عبد الوهاب” الذي لحن قصيدة “فلسطين” للشاعر علي محمود طه وكيف أن “أبو سردانة” انتقد  لحن “عبد الوهاب” لما فيه من تطويل ومد وهذا يتناقض مع طبيعة الأغنية الثورية التي يفترض أن تكون سريعة ومتتابعة، ما جعل “عبد الوهاب” يعترف بهذا الخطأ في تلحينه للأغنية، وهذا يشير إلى مكانة الملحن الفلسطيني وقدرته على تقديم ما يناسب الحالة الفلسطينية، وجعل الآخرين  يتفهمون طبيعة الأغنية الثورية ـ حتى لو كانوا بمكانة “عبد الوهاب” نفسه.

يدخل الكاتب إلى برنامج “أرب أيدل” في موسمه الثالث 2014 وكيف أن الرئيس الفلسطيني دعم محمد عساف ولم يدعم “هيثم الخلايلة” الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وأعتقد أن هذا المدخل لم يكن في مكانه، وكان يمكن استبداله بمحطة أهم وأكثر حيوية.

ويذهب بنا إلى الفنان الفلسطيني “أبو نسرين” الذي زاره برفقه صديقة الشاعر “إسماعيل حج محمد” والحديث الذي دار بينهم عن إمكانية تلحين شيء من شعر “فراس حج محمد”  هنا أشير إلى أن هذا أقل كتاب يتناول فيه فراس الأصدقاءـ فلم يذكر سوى أربعة منهم” مادونا عسكر، لينا الشخشير، عادل الأسطة، وإسماعيل حج محمد”، وهذا يعود إلى طبيعة الكتاب والمادة التي يحملها، فليس هناك من الأصدقاء مغنٍ أو ملحن.

يتوقف “فراس” مطولا عند أغنية “لكارول سماحة” نُسبت كلماتها لمحمود درويش: “ستنهي الحرب ويتصافح القادة” فيدافع عن النص مبينا أن مثل هذه القصائد ليست سطحية، ثم يدخل إلى الشاعر “خليل حاوي” وعن شعره وعن موته بطريقة خاطئة: “وهذا ما حدث مثلا مع الشاعر خليل حاوي الذي أصدر مجموعة شعرية أخيرة بعد طول صمت، وأنها لم تكن بالمستوى المتوقع منه، فكانت سببا في انتحاره كما يقول بعض المتابعين لشعره”. ص126، فهذا الكلام غير موضوعي لأن خليل حاوي انتحر بعد دخول قوات الاحتلال بيروت عام 1982، فأصابه صدمة نفسه جعلته يعبر عن رفضه الاحتلال لبنان وعاصمته بيروت من خلال الانتحار.

بعدها يدخلنا إلى مقامات العشق والعاطفة من خلال أغنية “عاليادي” متوقفا عند العديد مما غنى “عاليادي” مثل دلال أبو آمنة، فيروز، صباح”، و”نجاة الصغيرة” التي غنت “عاليادي” أيضا بطريقة جميلة ومثيرة.

وأثناء حديث الشاعر عن المغنيات يدخلنا إلى لقاء تم بين ماجدة الرومي ودرويش الذي اقترب منها كثيرا، مركزا على الاندفاع الجسدي عند درويش، وما فيه من غريزة جسدية، فالكاتب ظهر لنا مندفعا في حديثه عن درويش كما جاء في موضع سابق أشرنا إليه، وهذا الاندفاع والإسهاب في الحديث عن درويش يعود إلى أن “فراس حج محمد” شاعر في الأساس، لهذا (لا يستطيع) السيطرة على اندفاعه عندما يتم تناول درويش أو شعره.

وفي فصل “العزاء في الأغاني يتحدث عن “السمر” والأغاني المتعلقة بهنّ، وكيف أن حبيبته السمراء وجدها في العديد من الأغاني، وأشار إلى أغنية عبد الحليم حافظ “سمراء يا حلم الطفولة، يا منية النفس العليلة” على الرغم من عدم إعجاب “فراس” بعبد الحليم حافظ الذي يراه مترفعا عن الناس.

الفصل الأخير في الكتاب جاء على صيغة مادة تعليمية تربوية، تهم المعلمين والمدرسين، والمناهج التعليمية، فيتوقف الكاتب عند المنهاج الأردني؛ كيف أنه أدخل سميرة توفيق كمغنية للتراث الشعبي الأردني، فيندفع مدافعا عن هذا التناول مؤكدا أهمية الغناء والمغنيين في حياتنا العادية والتربوية والتعليمية.

ملاحظات على الكتاب

موضوعيا كان يجب التوقف عند الغناء القديم ولو بصفحة واحدة، لأن ما نعيشه اليوم من غناء شعبي يعود إلى ذلك الماضي.

كما كنت أتوقع أن يتوقف الكاتب عند الفرق الغنائية الفلسطينية والعربية العاشقين، الطريق، بلدنا، لما لها من أثر من مواجهة الأنظمة والإمبريالية والصهيونية، وحتى الثنائية بين أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام يتجاهلها الكاتب.

وبما أن فراس حج محمد شاعر، كنت أتوقع منه التوقف وبتركيز عند الأشعار/ القصائد المغناة، ودور الغناء في نشرها وإيصالها للجمهور، فالعديد من القصائد تم نشرها وحفظها من خلال الأغاني.

الكتاب من منشورات الرعاة للدراسات والنشر، رام الله فلسطين، جسور للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2025.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com