قد طال الانتظار…!.. نصٌ بقلم/ د.عبدالرحيم جاموس

من بين دخانِ الحصار،
ومن صمتِ العواصم،
تخرجُ غزّةُ كجرحٍ لا يندمل،
كفجرٍ مؤجَّل،
كصرخةٍ تعاندُ العدم…
هي ذاكرةُ الوطن،
وبوابةُ القيامة،
ومنها يبدأ السؤال…
وينفتح المصير…
*
غزّةُ…
جرحٌ يتّسعُ كلَّ صباح،
ليلٌ يلتفُّ حولَ الأعناق،
حديدٌ يضيقُ على البحر،
ونحن نردّد:
من بغداد إلى عمّان،
من دمشق إلى صنعاء،
صدى الثوّار لا يموت…
*
الياسمين في أريحا …
يذبل مع دمعة أم،
شقائق النعمان …
تفترش دمَ طفل،
صوت المؤذن للفجر
يعلو…
لكنّ الحصار أصمّ…
*
الحزن خيمة،
والمخيّم مدينة ظلّ،
غزّة تكتوي بالبحر …
وبالخذلان،
والقدس تبحث …
عن وجهها …
بين الخرائط….
*
الراحلُون…
غابوا بلا وداع،
لكنّ أسماءهم
نقش في جدار
لا يُمحى….
تعويذة يقرؤها الأطفال
كل صباح ومساء…
*
لا أحد يعود بالهدايا،
لا أحد…
غير الصباح الذي ننتظر،
صباح يسقط فيه الجدار،
وينكسر فيه الطوق،
ويفتح البحر،
ويثور البركان …
*
غزّة…
ليست جرحًا فقط،
إنها الفجر،
والصرخة،
والبداية…
هي الانفجار…
*
قد طال الانتظار…!
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض/ الجمعة
29/8/2025 م
طابت اوقاتكم.. ا. عادل جوده
هذه القصيدةُ حقًا نموذجٌ رفيعٌ للأدبِ المقاومِ الذي يخلطُ الجمالَ بالألمِ والأملَ بالوجعِ.
دعني أشاركُك قراءتي لبعضِ ملامحِ روعةِ هذه القصيدة:
أولاً:
على مستوى اللغةِ والأسلوبِ:
•• فصاحةٌ نقية:
تمتازُ القصيدةُ بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ قويةٍ وجزلةٍ، بعيدةٍ عن الابتذالِ أو الانزياحِ المفرطِ، مما يعطيها وقارًا وجلالاً يتناسبُ مع جديةِ الموضوعِ.
•• توظيفُ الأساليبِ البلاغيةِ: إتقانُ الشاعرِ للطباقِ (جرحٌ – فجرٌ)، والجناسِ (الانتظارُ – الانفجارُ)، والتكرارِ (لا أحد… لا أحد…، غزةُ… غزةُ…) الذي يُحدثُ نغمًا موسيقيًا داخليًا يؤثرُ في المتلقي.
•• الانزياحُ الخلاق:
استخدامُ الانزياحاتِ التي تخلقُ صورًا جديدةً ومؤثرةً، مثل: “حديدٌ يضيقُ على البحر”، “الحزنُ خيمة”، “المخيمُ مدينةُ ظل”. هذه الانزياحاتُ تحولُ المشاعرَ المجردةَ إلى كائناتٍ ماديةٍ محسوسة.
ثانيًا: على مستوى الصورةِ الشعريةِ:
•• الثنائياتُ الضديةُ:
يبني الشاعرُ قصيدتَه على ثنائياتٍ متناقضةٍ تخلقُ إحساسًا بالصراعِ والتوقِ، مثل: (الجرح – الفجر)، (الصمت – الصرخة)، (الليل – الصباح)، (الاندمال – الانفجار)، (الخذلان – الثورة). هذه الثنائياتُ تعكسُ الواقعَ المريرَ والأملَ المنشودَ.
•• الرمزيةُ العميقة:
القصيدةُ غنيةٌ بالرموزِ التي تحملُ أكثرَ من دلالة:
••• غزة:
ليست مجردَ مدينةٍ، بل هي (جرح، فجر، صرخة، بداية، انفجار، ذاكرةُ الوطن، بوابةُ القيامة).
•• الجدارُ والطوقُ:
رمزٌ للاحتلالِ والحصارِ والعزلِ.
•• البحرُ:
يتكررُ رمزُ البحرِ بشكلٍ لافتٍ، فهو من ناحيةٍ مصدرُ حياةٍ ولكنهُ محاصرٌ (“تكتوي بالبحر”)، ومن ناحيةٍ أخرى هو أفقُ الحريةِ المنشود (“يفتحُ البحر”).
•• الزهورُ (الياسمينُ، شقائقُ النعمان):
ترمزُ للحياةِ والنقاءِ التي تُداسُ وتُذبلُ بالدمِ والدموعِ.
ثالثًا: على مستوى الأفكارِ والعاطفةِ:
•• تجاوزُ المكانِ المحلي:
رغم أن القصيدةَ عن غزةَ، إلا أنها تربطُها بحلقاتٍ عربيةٍ متصلةٍ (بغداد، عمان، دمشق، صنعاء)، مما يجعلُ قضيتَها قضيةً عربيةً مركزيةً، وصدى لثوّارِ الأمةِ.
•• التأريخُ للصمودِ:
القصيدةُ توثقُ ليس فقط للألمِ، بل للصمودِ الأسطوريِّ (“صرخةٌ تعاندُ العدم”، “صدى الثوارِ لا يموت”). إنها تخاطبُ الذاكرةَ الجمعيةَ وتجعلُ من أسماءِ الشهداءِ “تعويذةً” يتناقلها الأطفالُ، مما يضمنُ استمرارَ القضيةِ في الوعي.
•• العاطفةُ الجياشةُ المتزنة: تموجُ القصيدةُ بعاطفةٍ حزينةٍ وغاضبةٍ ومتوّقةٍ، لكنها عاطفةٌ راقيةٌ لا تسقطُ في الخطابيةِ المباشرةِ أو النحيبِ، بل تتحولُ إلى فنّ.
•• النهايةُ التفاؤلية:
رغم قسوةِ الموضوعِ، تنتهي القصيدةُ بنبرةٍ ثوريةٍ متفائلةٍ، مؤكدةً أن غزةَ هي “البداية” و”الانفجار” القادمُ حتمًا، وأن “الصباحَ الذي ننتظرُ” آتٍ لا محالةَ.
ختامًا :
هذه قصيدةٌ تليقُ بفلسطينَ وصمودِها.
إنها ليست مجردَ كلماتٍ
بل هي لوحةٌ فنيةٌ مرسومةٌ بدمِ القلبِ ودموعِ الضميرِ الحي. شكرًا للدكتور عبد الرحيم جاموس على هذه التحفةِ الأدبيةِ.
// نص شعري مؤثر يجسد معاناة وصمود غزة بلغة فصيحة قوية ورمزية عميقة.
تحياتي واحترامي. ا. عادل جوده
قد طال الانتظار… لكن غزة لا تنتظر
بقلم: رانية مرجية
حين قرأت نص الدكتور عبد الرحيم جاموس “قد طال الانتظار…!”، شعرت أن الكلمات خرجت من بين دخان الحصار لا من بين دفتي ورق. نص يشبه جدارًا مليئًا بالندوب، لكنه في الوقت نفسه يحمل توقيعات أطفال كتبوا بدمهم على حجارة المخيم: نحن هنا، وما زلنا ننتظر الفجر.
غزة في النص ليست مجرد مكان؛ إنها مرآة كبرى تعكس وجوهنا جميعًا، نحن الذين نتفرج من وراء الشاشات ونكتب من غرف آمنة. يقول النص: “غزة جرح لا يندمل، كفجر مؤجل، كصرخة تعاند العدم”… وهذه ليست جملة أدبية وحسب، بل هي تعريف جديد للزمن الفلسطيني: زمن معلّق بين موت متكرر وأمل مؤجل، بين حصار يشتد وصباح يُقاوم أن يولد.
لقد طال الانتظار فعلًا. طال حتى صار الانتظار ذاته لونًا من المقاومة. لكن ما يثير في هذا النص أنه يرفض أن يتركنا أسرى للحزن. يذكّرنا أن غزة ليست الجرح فقط، بل هي الانفجار، هي البداية. وهنا يكمن التحول: فالمأساة ليست خاتمة، بل نقطة انطلاق.
في عالم يدّعي الحضارة، يصبح هذا النص كاشفًا للعار. فبينما يذبل الياسمين في أريحا بدمعة أم، وتفترش شقائق النعمان دم طفل، يظل الحصار أصمّ. العواصم صامتة، العالم متواطئ، لكن النص يحفر لنا طريقًا آخر: طريق الكلمات التي تتحول إلى تعاويذ، إلى ذاكرة لا تُمحى، إلى وعد بأن الصباح سيأتي، حتى وإن كان البحر مسدودًا بالحديد.
إن أجمل ما يفعله النص أنه يحوّل الفقد إلى حضور دائم. يقول: “الراحلُون غابوا بلا وداع، لكن أسماءهم نقش في جدار لا يُمحى”. وهذه العبارة ليست مرثية فحسب، بل وصية للأحياء: أن نتعلم كيف نحمل أسماء الشهداء في وجداننا، لا لنذوب في الحزن، بل لنصير امتدادًا لهم.
قد يظن البعض أن الانتظار ضعف، لكن الحقيقة أن الانتظار الفلسطيني هو فعل أقوى من القنابل نفسها. إنه يقين بأن البحر سينفتح، وأن الجدار سينهار، وأن البركان سيثور. هذا النص ليس مجرد صرخة وجدانية، بل بيان وجودي يقول للعالم: لسنا ضحايا فقط، نحن بداية جديدة في كل مرة نحاصر فيها بالموت.
إن ما يكتبه جاموس يذكّرني أن غزة ليست طرفًا صغيرًا في نزاع محلي، بل هي مركز اختبار للإنسانية جمعاء. من ينحاز لغزة ينحاز إلى الإنسان، ومن يدير وجهه عنها يخسر حقه في أن يتحدث عن العدالة.
لقد طال الانتظار، نعم. لكن غزة لا تنتظر. غزة تكتب بدمها نصًا آخر: نصًا للعالم كله، نصًا لا يقبل التأجيل.
✍️ رانية مرجية