حين تُمنع فلسطين من المنبر الأممي… بقلم/ حلمي أبو طه

في خطوة خطيرة وغير مسبوقة، أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على اتخاذ قرار يقضي بمنع القيادة الفلسطينية من دخول أراضيها، فمنذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة 1945، وما تبعها من اتفاقية المقر الموقعة في 1947 بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، كان الالتزام واضحاً وصريحاً: تسهيل دخول ممثلي الدول الأعضاء، بلا استثناء، إلى مقر المنظمة الدولية في نيويورك. بصرف النظر عن الخلافات السياسية. غير أن هذا المبدأ، الذي يُفترض أنه أحد ركائز الشرعية الدولية، تعرّض لانتكاسة خطيرة في التاسع والعشرين من أغسطس 2025، حين أعلن وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، برفض وإلغاء تأشيرات عدد من كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. من بين هؤلاء: الرئيس محمود عبّاس وحوالي 80 مسؤولاً آخرين. القرار يشمل إلغاء تأشيرات سبق إصدارها وكذلك رفض طلبات جديدة. ولتحسين القبح الأمريكي، أكّدت أنه بالرغم من منع القادة من الدخول، فإن بعثة السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة ستظل قادرة على العمل في نيويورك بموجب اتفاقية المقر. أي أن التمثيل سيقتصر على البعثة الرسمية وليس القادة أنفسهم.
الأسباب المعلنة من الولايات المتحدة تتعلّق بمخاوف تمس بالأمن القومي الأميركي. حيث تنتقد واشنطن على وجه الخصوص ما تصفه بترويج الإرهاب في التعليم، والدفع للعائلات التي فقدت أقاربهم بسبب أعمال ضد إسرائيل، وما تسميه “lawfare” – أي الإجراءات القانونية الدولية التي تُتخذ ضد إسرائيل. كما أن الولايات المتحدة ترى أن هذه الخطوات من قيادة السلطة/المنظمة قد تُقوّض الجهود من أجل السلام. والسعي إلى الحصول على اعتراف أحادي بالدولة الفلسطينية، فضلًا عن اتهامات أخرى وصفتها الإدارة الأمريكية بأنها “جرائم محتملة”. بهذا القرار نحن امام انتهاك صارخ للقانون الدولي، خاصة اتفاقية مقر الأمم المتحدة التي تلزم الولايات المتحدة بالسماح بدخول ممثلي الدول والمنظمات المعترف بها من قبل الأمم المتحدة إلى نيويورك لأغراض الاجتماعات المتعلقة بالأمم المتحدة.
لم تكن الولايات المتحدة يوماً صاحبة الحق المقدّس في احتضان الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ فالمقر لم يُمنح لها لتستخدمه كسلاح ابتزاز سياسي أو وسيلة إذلال للشعوب، وإنما وُضع على أرضها بقرار أممي مشروط بالحياد والالتزام بمبدأ المساواة بين الدول. غير أن منع ممثلي الشعب الفلسطيني من الوصول إلى منبر الأمم المتحدة يكشف انحرافاً خطيراً في سلوك واشنطن، ويستدعي من المجتمع الدولي، أن تطرح بجدية خيار نقل الاجتماعات إلى دولة محايدة مثل سويسرا التي ارتبط اسمها بالحياد والاحترام المتبادل، كما حدث في تجربة الرئيس ياسر عرفات سنة 1988. فحين يُمنع ممثلو فلسطين من المشاركة في أعمال الأمم المتحدة، فإن الرسالة واضحة: الولايات المتحدة لا تحترم شرعية الأمم المتحدة إلا حين تخدم مصالحها الخاصة. فهل يُعقل أن تتحكم دولة مضيفة في هوية من يحق له دخول الأمم المتحدة ومن يُمنع؟! وهل تبقى الأمم المتحدة أسيرة للتأشيرة الأمريكية؟ أم تتحرر لتكون بالفعل منظمة الشعوب جميعاً؟
توجد نداءات ومقترحات من بعض الدول والمنظمات لنقل الجلسات الخاصة في المناقشة العامة، والتي ستُقام من 23 إلى 29 سبتمبر 2025. من نيويورك إلى جنيف، بسبب رفض التأشيرات للقيادة الفلسطينية. لكن حتى الآن، لا يوجد قرار رسمي موثوق أو معلن من جهة الأمم المتحدة أو أي مصدر رسمي بنقل اجتماع الجمعية العامة أو جلسة المناقشة العامة، التي يلقي خلالها قادة الدول كلماتهم. من نيويورك إلى مدينة أخرى. فالأمم المتحدة ما زالت تعتبر نيويورك مقرّها الرسمي لعقد الجلسات العامة. وبحسب ما ورد في مصادر موثوقة مثل هآرتس ووكالة الأناضول، أن السلطة الفلسطينية قررت عدم المطالبة بنقل جلسات الجمعية العامة من نيويورك إلى جنيف أو أي مقر آخر، رغم رفض تأشيرات قياداتها. كما لا توجد معلومات موثوقة تفيد أن السفير منصور سيلقي كلمة الرئيس عباس أو أن هناك بديلاً رسمياً قد تم تحديده. حيث من الممكن أن تبادر السلطة الفلسطينية باختيار ممثل آخر ذات رتبة أقل من الرئيس ليحضر ويتحدث، ولكن حتى الآن لا يوجد تأكيد على ذلك.
الأمم المتحدة تتمسّك بأن الولايات المتحدة ملزمة بمنح التأشيرات للوفود، حتى لو كانت هناك خلافات سياسية. ولذلك، ترى أن الحل هو إلزام واشنطن بالاتفاقية وليس تغيير مكان الجلسة. كما أنها تسمح للبعثات المعتمدة (مثل بعثة فلسطين الدائمة برئاسة السفير رياض منصور) أن تمارس مهامها لضمان تمثيل الدولة، ومنظمة التحرير في الاجتماعات. ومن جانبها، ترى السلطة الفلسطينية أن الضغط يجب أن يكون باتجاه إلزام واشنطن بتطبيق الاتفاقية بدلاً من المطالبة بتغيير مكان انعقاد الجلسات. كما أنها لا تريد أن تُظهر نفسها كمن يُعطّل عمل الجمعية العامة أو يتسبّب بأزمة دبلوماسية أوسع داخل المنظمة الدولية.
وتعتبر أن رفض التأشيرات هو خرق أميركي يمكن استثماره سياسياً ودبلوماسياً ضد واشنطن وإسرائيل، بإظهار الأخيرة كمن يمنع حتى الحوار داخل الأمم المتحدة. بهذا الشكل، تبقى المسؤولية على الولايات المتحدة، لا على السلطة أو المنظمة.
الجمعية العامة، وفق المادة 20 من ميثاق الأمم المتحدة، تستطيع أن تجتمع في أي مكان تراه مناسباً، إذا كان هناك مانع يحول دون الاجتماع في المقر الدائم (نيويورك). والقرار يتخذ بالأغلبية البسيطة في الجمعية العامة، دون الحاجة لإجماع. ورغم أن بعض الدول والمنظمات طالبت بنقل الاجتماعات إلى جنيف، إلا أن هذا الطرح لم يلقَ إجماعاً واسعاً. ومن الناحية القانونية، لا يوجد ما يمنع السلطة الفلسطينية من تقديم طلب رسمي للجمعية العامة لنقل الجلسة، ولا يمكن لأمريكا إيقافه بالفيتو. لكن تخوف السلطة غالباً ليس قانونياً، بل سياسياً، فالسلطة تخشى التكلفة السياسية والدبلوماسية: مواجهة أمريكا، احتمال خسارة بعض الحلفاء، وظهور العجز إذا فشلت في جمع أغلبية مؤيدة. فالسلطة الفلسطينية تدرك أن الحصول على قرار رسمي من الجمعية العامة بنقل المقر أمر وارد، لكن له تبعات صعبة سياسياً وقانونياً. فطلب نقل الجلسة يمثل خطوة قوية لكنها عالية التكلفة. أما عدم الطلب فيه أمان تكتيكي قصير المدى، لكن بثمن إستراتيجي طويل المدى (تآكل الشرعية والهيبة).
إذا استمرّ رفض الولايات المتحدة منح التأشيرات للقيادات الفلسطينية. يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لتوقع كيفية القاء خطاب فلسطين. السناريو الأول: الرئيس عباس يتحدث من مكتبه في رام الله، دون الحاجة للسفر إلى نيويورك. ويتم بث الخطاب عبر الفيديو كونفرنس باستخدام بروتوكولات الأمم المتحدة المعتمدة. فالخطاب من رام الله عبر الفيديو سيكون حل وسط عملي وشرعي يسمح للسلطة الفلسطينية بالتمثيل الرسمي والمشاركة في المناقشة العامة، مع الحفاظ على تأثير سياسي ودبلوماسي معقول. كما أنه يظهر أن السلطة ملتزمة بالآليات الأممية ولا تعرقل الاجتماعات. ويتيح للسلطة الفلسطينية توجيه رسائل قوية ضد منع التأشيرات، مع إظهار أن المجتمع الدولي يمكنه الاستماع مباشرة دون الحاجة لتدخل واشنطن. كما أن هذا الحل واقعي وسريع التنفيذ، لا يحتاج لتعقيدات قانونية أو تصويت. ويضمن أن كلمة الرئيس محمود عباس تُسمع مباشرة من القيادة الفلسطينية. ويعطي صورة أن الفلسطينيين يتجاوزون الحصار الأمريكي بالوسائل التكنولوجية دون تعطيل عمل الأمم المتحدة.
السيناريو الثاني يتمثل في إلقاء الكلمة مباشرة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من خلال نقل الجلسة إلى جنيف: وهو يشكّل إحراجاً كبيراً للولايات المتحدة، لأنه يُظهر أن الأمم المتحدة لا تستطيع ممارسة عملها بحرية في نيويورك بسبب القيود الأمريكية. ويُعيد للأذهان تجربة 1988 مع الرئيس ياسر عرفات، وبالتالي يعطي السلطة الفلسطينية زخماً تاريخياً ورمزية قوية. ويخلق حالة تضامن دولي أوسع مع فلسطين، ويُضعف شرعية الموقف الأمريكي. لكن ذلك يحتاج إلى تصويت الجمعية العامة وقد لا توافق كل الدول على خطوة بهذا الحجم الآن. وقد يُنظر له باعتباره تصعيداً مفرطاً يُدخل الأمم المتحدة في صراع مباشر مع أمريكا.
السيناريو الثالث، يتجسد في تكليف المندوب الدائم (رياض منصور) بإلقاء الكلمة، وهو حل رسمي وقانوني وسهل من دون أي جدل. فالمندوب الدائم لفلسطين شخصية خبيرة ومتمرسة في أروقة الأمم المتحدة. لكن يؤخذ على هذا الخيار أنه يُفقد الخطاب الكثير من الرمزية والوزن السياسي والإعلامي، لأن ما يهم العالم أن يسمع من رأس الدولة أو القيادة مباشرة. وقد يُفسر كتنازل أو تراجع من القيادة الفلسطينية. إن ما تفعله الإدارة الأميركية يعكس عقلية استعلاء وازدراء صريحاً للأمم المتحدة نفسها وللنظام الدولي القائم على القوانين والأعراف. فهذا السلوك يجسد منطق “السفاهة الدبلوماسية”، حيث تتحول الدولة المضيفة إلى قاضٍ وجلاد في آن واحد، فارضة وصايتها على إرادة العالم.
إن اتفاقية المقر لا تعني أبداً أن الأمم المتحدة مرهونة للأبد بمدينة نيويورك. بل إن الجمعية العامة نفسها ناقشت في مرات سابقة (خصوصاً بعد أزمات مع الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن الماضي، ومع إيران في الثمانينيات) إمكانية نقل المقر إلى مدينة أخرى أكثر حياداً، إذا استمرت واشنطن في استخدام سلطتها لتقييد دخول الوفود الرسمية. وقد طُرحت عبر التاريخ عدة بدائل محتملة، من أبرزها: جنيف – سويسرا: حيث المكاتب الأوروبية للأمم المتحدة، ويجعل الحياد السويسري العريق منها الخيار الأكثر ترجيحاً. وخيار فيينا – النمسا: مقر منظمات دولية كبرى، أبرزها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولدينا خيار لاهاي – بهولندا: مدينة العدالة الدولية ومحكمة العدل الدولية. وتأتي من بين الخيارات مونتريال – كندا: حيث طُرحت مراراً بحكم القرب الجغرافي من أمريكا دون خضوع مباشر لسياساتها.
هذه البدائل تمثل خطوة عملية لإعادة الاعتبار للأمم المتحدة كمؤسسة عالمية مستقلة، تلتزم بمبادئ العدالة والمساواة بين جميع شعوب الأرض، بعيداً عن الاحتكار والسيطرة الفردية.
إن استمرار الوضع الراهن لا يهدد فقط صورة المنظمة، بل يطعن في جوهر رسالتها، فالكرامة الدولية لا تُصان بالشعارات، بل بالقرارات الشجاعة التي تعيد الاعتبار لحقوق الشعوب واحترام سيادتها. ومن هنا من قلب غزة التي أنهكتها الحرب وتباد بشكل علني نرسل رسالتنا إلى شعوب وقيادات الدول العربية والإسلامية وسائر دول الجنوب، أن التجربة تبرهن أن الانخراط في المشروع الأميركي لم يجلب إلا الخيبة والمهانة؛ فكل من استند إلى البيت الأبيض ورفع من شأنه، خرج في النهاية بلا احترام ولا اعتبار. إنها النتيجة الحتمية لسياسة قائمة على الطاعة العمياء، أشبه بـالمثل القائل “جزاء سنمار” والذي يضرب في حالة العقوبة على الاحسان، فهذا المثل يتكرر مع كل من صدّق الوهم الأميركي. وفيه تتكرر الخيبة مع كل من صدّق هذا الوهم.