إسرائيل والجيش المصري… معركة سيناء الخفية.. بقلم/ حلمي أبو طه

في زمن غاب فيه الحياء السياسي، وارتفعت الأصوات التي لا تعترف بالحدود الأخلاقية، وما يزيد من الابتزاز والقرصنة العلنية، ينطبق المثل الشعبي: “إن لم تستحِ فافعل ما شئت” هذا ما يمكن وصفه على نتنياهو وحكومته. فها هو يفتح جبهة جديدة من الأكاذيب ضد مصر، محاولاً تصوير الجيش المصري كأنه يشكل تهديداً على اسرائيل، لا حائط صدٍّ للأمن القومي العربي. وليس غريباً أن تتولى تسريب هذه المزاعم منصة أمريكية مثل أكسيوس عبر الصحفي باراك رافيد، المعروف بقربه من دوائر نتنياهو والاستخبارات الإسرائيلية، وتداولته وسائل اعلام إسرائيلية وعربية. ما اعتبرته اسرائيل “تجاوزات” الجيش المصري في سيناء.

ففي إطار حملة منظمة لإرباك القاهرة وابتزازها سياسياً. وبحسب التقرير، عرض نتنياهو على وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو صوراً وخرائط زعم أنها توثق انتشار الجيش المصري في سيناء بأعداد تفوق ما تسمح به معاهدة كامب ديفيد، خاصة في المناطق الملاصقة للحدود. كما روّج لادعاءات حول أنفاق أقامتها القوات المصرية، ومدارج جوية عسكرية، ومخازن لصواريخ وذخائر قرب الحدود. وانتهى إلى مطالبة إدارة ترامب بالضغط على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لسحب قواته من مواقعها، واصفاً هذا الانتشار بأنه “اختراق” لاتفاقية السلام. لكن المضحك المبكي أن إسرائيل ذاتها هي أول من خرق الاتفاقيات الدولية حين اجتاحت رفح، متجاهلة تحذيرات الأمم المتحدة ومطالبات المجتمع الدولي بعدم التوغل في محور صلاح الدين (فيلادلفيا). ومع ذلك استمرت في فرض أمر واقع عسكري على الأرض، ثم عادت لتتحدث عن “تهديد الأمن القومي الإسرائيلي” من وجود الجيش المصري في أرضه!

ما زالت إسرائيل تصر على أن أي هدنة مستقبلية لن تشمل رفح، وكأنها تسعى لفرض احتلال دائم على المعبر وما حوله. والمثير للسخرية أنّ تل أبيب حاولت تصوير التحركات المصرية على أنها تهديد للأمن القومي الإسرائيلي ذاته، في محاولة مكشوفة لإثارة الشكوك الداخلية ودفع واشنطن لتشديد ضغوطها على القاهرة. وفي الاتجاه الأخر مصر نفت تلك المزاعم جملة وتفصيلًا، وأكدت أنها تلتزم بترتيباتها الأمنية، وأن وجودها العسكري في سيناء هو أمر داخلي، على أرض مصرية، وهو في إطار مكافحة الإرهاب وحماية أمنها القومي المصري، وليس تهديداً لأحد. وأنها لن تقبل بأي إملاءات تمس سيادتها. وأنها تحترم اتفاقية السلام الموقعة مع الطرف الإسرائيلي وتعتبر أن تعزيز وجودها العسكري في سيناء هو خيار استراتيجي لحماية أمنها القومي. لذلك نرى الإعلام الاسرائيلي أخذ خطوة استباقية ملوحاً بما يسمى بخطة “صحوة هارون” فهي ليست خطة رسمية معلنة، بل تحليل إسرائيلي يتداول إعلامياً كتصور لاحتمال مواجهة مفاجئة مع مصر، يركز على استعدادات عسكرية وسياسية وإعلامية. ويرجح أنها أقرب إلى سيناريوهات تخويف أو حرب معلومات أكثر من كونها خطة تنفيذية معتمدة.

وفي ذات السياق كشفت القناة الإسرائيلية (13) أن مصر تقدمت بشكوى رسمية ضد إسرائيل على خلفية قيام الأخيرة بنصب أبراج مراقبة مرتفعة مزوّدة بكاميرات تصوير متطورة على طول الحدود في محور صلاح الدين داخل الجانب الفلسطيني من رفح. واعتبرت القاهرة هذه الخطوة تهديداً مباشراً لأمنها القومي، مؤكدة أنها ناقشت الأمر مع الجانب الإسرائيلي الذي تعامل معه بلا اكتراث ودون أن يمنحه الاهتمام المطلوب. كما أن إسرائيل لوّحت مراراً باستخدام ورقة الغاز كورقة ضغط على مصر، وبإمكانية تجميد الصفقة أو تعطيلها بما يخدم مصالحها السياسية والأمنية. وفقاً لهذه الرؤى، التلويح بإمكانية توقيف الصفقة أو تجميدها إذا لم تلتزم مصر بشروط معينة، مثل الالتزام باتفاقيات السلام، أو السيطرة على الأوضاع في سيناء، أو حتى فيما يخص موقفها السياسي من قضايا فلسطين.

ومن المؤكد أن الإسرائيليون يدركون يقيناً أن الشعب المصري بطبيعته يرفضهم ولا يتقبل وجودهم، لكن ما يثير قلقهم الأكبر أن هذه الروح المعادية لإسرائيل ليست مجرد شعور شعبي عابر، بل تحولت إلى عقيدة راسخة لدى الجيش المصري، الذي يرى أن التهديد الحقيقي والخطر الاستراتيجي يأتي من إسرائيل وحدها. ولهذا تكشف التقارير السرية الإسرائيلية، بقلق بالغ، عن حجم التحولات الهائلة في البنية التحتية التشغيلية داخل سيناء وعمق مصر: من شبكة المعابر والأنفاق والجسور التي شُيّدت فوق وتحت قناة السويس، إضافة إلى الاحتياطات الضخمة من الوقود والذخائر، ومنظومات الدفاع الجوي المتقدمة، فضلاً عن المواد التموينية، والمطارات العسكرية، والموانئ البحرية الحديثة. كل ذلك، في نظر تل أبيب، يعكس جاهزية مصرية عالية تعيد تشكيل موازين القوة وتُبقي إسرائيل في حالة استنفار دائم.

في تقديري، ما تروّجه إسرائيل لا يعدو كونه محاولة ابتزاز سياسي موجه ضد القاهرة، والسبب الحقيقي ليس “أمن إسرائيل”، بل معاقبة مصر على موقفها الصلب من قضية غزة. فالقاهرة رفضت الانخراط في مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو فتح الحدود أمام نزوح جماعي يفرّغ القطاع من أهله، لتبقى غزة على أرضها صامدة. وهذا الموقف أربك الحسابات الإسرائيلية وأغضب نتنياهو، الذي يحاول اليوم تصديره على شكل “خطر أمني” لتبرير ضغوطه. ومن الصعب أن تذعن مصر لمثل هذه الضغوط الامريكية أو الإسرائيلية. فالقضية لم تعد قراراً سياسياً محضاً، بل باتت مرتبطة مباشرةً بمؤسسة الجيش المصري، التي ترى في تعزيز وجودها بسيناء مسألة أمن قومي لا مساومة فيها. يضاف إلى ذلك أن الرأي العام المصري بات أكثر حساسية تجاه أي ابتزاز إسرائيلي أو أمريكي، ويميل بوضوح إلى دعم صمود الفلسطينيين ورفض أي تنازل يمس الحدود والسيادة.

من هنا، ومن غزة المحاصَرة، ومن على مسافة صفر سياسي، ومن بيتي الملاصق للحدود مع مصر، نؤكد أن الدور المصري يبقى ركيزة أساسية في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وأن أي حوار مع القاهرة يجب أن يُربط بمحور صلاح الدين، وبضرورة انسحاب الجيش الإسرائيلي الكامل من رفح والعودة إلى خطوط ما قبل السابع من أكتوبر 2023. عندها فقط يمكن أن نتحدث عن أمن حقيقي، واستقرار عادل، وهدنة تستند إلى القانون الدولي وحقوق الشعوب، لا إلى شهوات القوة وابتزاز المحتل. ورغم كل هذه الضغوط والمناورات، يبقى اليقين راسخاً أن مشروع التهجير مصيره الفشل، وأن إرادة الفلسطينيين بالتمسك بأرضهم أقوى من كل المؤامرات. لقد أثبتت التجارب أن مصر، حين يتعلق الأمر بأمنها القومي وعمقها الاستراتيجي الفلسطيني، لا تساوم، وأن الموقف العربي الشعبي يزداد صلابة مع كل محاولة ابتزاز. ومن هنا فإن المستقبل، مهما بدا مظلماً، يحمل بارقة أمل: أن غزة ستبقى غزة، وأهلها سيبقون فيها، وأن الاحتلال مهما توغّل في رفح أو غيرها فلن يستطيع كسر إرادة الصمود. إن التاريخ علّمنا أن الشعوب التي تتشبث بحقها لا تُهزم، وأن الغد وإن طال ليلُه، لا بد أن يشرق بنور الحرية والاستقلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com