الحرب على غزة: البعد الإنساني والسياسي وتحولات الرأي العام العالمي.. بقلم/ حلمي أبو طه

منذ اللحظة الأولى لانفجار الحرب الأخيرة على غزة، وبعد مرور سنتين عجاف، بقي الصمود الفلسطيني حاضراً وسط الركام والدمار، محاطاً بمأساة إنسانية أثارت ضمير العالم. فلم يكن الصراع محصوراً في المعاناة اليومية فحسب، بل امتد إلى ساحات السياسة الدولية، حيث شهدت القضية الفلسطينية تحولات وديناميكيات جديدة على المستوى الدبلوماسي والإنساني. فلم يعد المشهد الفلسطيني مجرد أرقام جافة في نشرات الأخبار، ولا عناوين عابرة على شاشات العالم، بل تحوّل إلى صورة إنسانية صادمة تهزّ الضمير العالمي وتضعه أمام اختبار حقيقي: أطفال يُنتشلون من تحت الركام وقد علاهم الغبار والخوف، مستشفيات تُقصف فوق رؤوس المرضى والكوادر الطبية، وعائلات تُباد بالكامل في ليلة واحدة دون إنذار أو ملاذ. هذه الصور الموجعة اخترقت جدران الصمت، وأعادت تشكيل وعي الرأي العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية، فلم تعد الرواية الفلسطينية محصورة في أروقة السياسة والدبلوماسية، بل باتت تنبض بالحياة والمعاناة على شاشات الهواتف وقلوب الناس في كل مكان.
هذا الواقع فتح الباب أمام تحولات عميقة، في طريقة تعامل الرأي العام الدولي مع الرواية الفلسطينية. فالحرب رغم بشاعتها كشفت البعد الإنساني، وأظهرت هشاشة القانون الدولي، حينما تحوّل المدنيون إلى أهدف مباشر بلا حماية. حيث تشير تقارير أممية إلى استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال، فيما دُمّرت أكثر من 90% للمرافق الصحية والتعليمية. فالصور الصادمة التي خرجت من غزة لم تكن بحاجة إلى تعليق: أطباء يجرون عمليات جراحية على ضوء الهواتف الخلوية وبدون حقن تخدير، مدارس تحولت إلى مقابر جماعية، وأحياء وقرى ومدن كاملة محيت من الخارطة. هذه المأساة أخرجت الرأي العام العالمي من دائرة السياسة والجيوبوليتيك إلى قلب القضية الإنسانية، لتصبح غزة رمزاً لمعاناة البشرية وجسراً للضمير العالمي الذي لم يعد يستطيع تجاهل هذه الكارثة. الحرب أعادت تثبيت غزة سياسياً كجزء أساسي من الهوية الوطنية الفلسطينية وليست مجرد “جيب” معزول أو منطقة هامشية. فعلى المستوى العربي، وضعت الحرب الحكومات أمام امتحان صعب: إما مجاراة غضب الشارع الرافض للعدوان، أو الانصياع للضغوط الغربية. وما بين هذين الخيارين لم يكن هناك مكان للوسط. كما الموقف المصري الرافض لمحاولات التهجير كأحد المرتكزات السياسية المهمة، إذ أعلنت القاهرة بشكل واضح أن سيناء ليست بديلاً عن غزة، مما شكل حاجزاً أمام محاولات فرض وقائع ميدانية تهدد جوهر القضية الفلسطينية.
وإذا كان المشهد الإنساني قد هزّ الضمير العالمي، فإن تداعياته السياسية لم تتأخر في الظهور، على الساحة الدولية، فبرزت الولايات المتحدة كطرف مباشر في الحرب، من خلال الإسناد العسكري والسياسي غير المشروط لإسرائيل، ما أضعف صورتها التقليدية كراعٍ للسلام. في المقابل، برزت قوى أخرى حاولت ملء الفراغ بطرح مبادرات ورفع الصوت ضد الانحياز الأمريكي. مع محاولة إعادة توازن الخطاب العالمي. فالرئيس الفرنسي ماكرون ومن على منصة الأمم المتحدة قال ” الشعب الفلسطيني ليس شعباً زائد عن الحاجة، بل هو الشعب الذي لا يقول وداعاً لاي شي، شعب قوي بتاريخه وجذوره وبكرامته”. كذلك، فقدت مشاريع التطبيع بريقها أمام مأساة يومية تتكشف على شاشات العالم، إذ بدا من الصعب تمريرها بينما تُعرض صور المجازر يومياً على تلك الشاشات. لتتجلّى غزة كقضية لا يمكن تجاهلها، بين السياسة والإنسانية والضمير العالمي. وأبرز ما أظهرته الحرب جاء على مستوى القانون الدولي وازدواجية المعايير. فقد شهدنا سقوط مصداقية النظام الدولي القائم أمام أعين العالم. فقد أصدرت الأمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان مواقف حذرة ومتحفظة، بينما عجز مجلس الأمن عن وقف المجازر بفعل الفيتو الأمريكي المتكرر. المفارقة أن المجتمع الدولي الذي تحرك سريعاً ضد روسيا في أوكرانيا، وفرض عقوبات شاملة خلال أيام، بدا عاجزاً أمام الجرائم الموثقة بالصوت والصورة في غزة. هذه الازدواجية لم تمر مرور الكرام، بل غذّت نقاشاً عالمياً حول عدالة المنظومة الدولية وجدوى استمرارها بصيغتها الحالية. خاصة أمام مشاهد إنسانية تهزّ الضمير وتفرض وقفة عاجلة لإعادة تقييم القيم والأولويات على الساحة العالمية. وفي هذا السياق، لعبت جنوب أفريقيا دوراً محورياً حين تقدمت بدعوى إلى محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة، ما شكّل تحولاً نوعياً في نقل القضية الفلسطينية من ساحة الإعلام والسياسة إلى ساحة القانون الدولي، وأعطى زخماً أخلاقياً وقانونياً عالمياً غير مسبوق.أحد أهم مخرجات الحرب على غزة هو البعد الدولي، والتحول الكبير في الرأي العام العالمي. حيث لم تعد القضية الفلسطينية مجرد قضية إقليمية، بل أصبحت اختباراً عالمياً للضمير الإنساني. ففي لندن وواشنطن وباريس وبرلين خرجت مظاهرات غير مسبوقة، ضمت مئات الآلاف، رافعة علم فلسطين ومطالبة بوقف الإبادة وفضح الإعلام الغربي الذي طالما تبنى الرواية الإسرائيلية أحادية الجانب. هذا الإعلام الذي وجد نفسه مضطراً لمنح مساحة أكبر للرواية الفلسطينية، وأحياناً الاعتراف صراحة بجرائم الاحتلال تحت مصطلحات صادمة مثل “جرائم حرب” و”تطهير عرقي”، ما شكل تحولاً نوعياً في الخطاب الغربي تجاه القضية. كما اتخذت بعض الحكومات الغربية خطوات غير مسبوقة، تمثلت في تعليق أو إلغاء صفقات سلاح مع إسرائيل، في إشارة إلى سد الفجوة بين الرأي العام والسلطات، وبدء ضغوط سياسية حقيقية داخل العواصم الغربية. كما أن الأمر لم يتوقف عند حدود المظاهرات الشعبية، بل شمل الجامعات، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني على خط القضية، حيث بدأت هذه المؤسسات التعليمية والثقافية تضغط على صناع القرار لتسليط الضوء على الانتهاكات، وتفعيل دور البحث والوعي القانوني والحقوقي. هذا التحرك العالمي يثبت أن فلسطين لم تعد حكراً على السياسة أو الدبلوماسية، بل أصبحت جزءاً من ثقافة المقاومة العالمية ضد الظلم والقهر، ورمزاً لحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة، مؤكدًاً أن القضية الإنسانية تتخطى الحدود الجغرافية لتصبح رسالة لكل من يرفع صوت الحق في العالم.
وقد لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في نقل الصورة الإنسانية من غزة إلى العالم لحظة بلحظة، مما جعل الرأي العام يتشكل خارج قنوات الإعلام التقليدي. فالحرب الأخيرة لم تُنهِ الصراع، لكنها أعادت رسم قواعده بشكل لم يسبق له مثيل. فقد باتت إسرائيل تعاني من أزمة صورة غير مسبوقة، إذ لم تعد قادرة على تسويق نفسها كـ”دولة ديمقراطية تدافع عن نفسها”. بينما تتكشف في المقابل الحقائق الصادمة للمجتمع الدولي عن واقع الاحتلال وانتهاكاته. وعلى الرغم من حجم المأساة الإنسانية في غزة، اكتسب الفلسطينيون تعاطفاً دولياً واسعاً، امتد إلى شعوب وحكومات ومنظمات مدنية، ما يشكل رصيداً سياسياً ودبلوماسياً يمكن أن يكون مؤثراً في المرحلة المقبلة. المعادلة الجديدة تشير بوضوح إلى أن استمرار الاحتلال لم يعد مجرد شأن فلسطيني – إسرائيلي، بل عبء على النظام الدولي كله. واختباراً لمصداقية مؤسساته وقدرته على حماية حقوق الشعوب. وإذا ما استثمر الفلسطينيون وحلفاؤهم هذا التحول بذكاء، فإنهم قد يفتحون الباب أمام مرحلة جديدة تتجاوز حالة الجمود الراهنة وتفرض وقائع سياسية أكثر توازناً. وعدالة، مع تعزيز الصمود الفلسطيني وإبراز قدرته على تحويل المعاناة الإنسانية إلى قوة ضغط عالمية، تدفع باتجاه حلول مستدامة تحمي الكرامة والحق.
الحرب على غزة لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل محطة فاصلة أعادت صياغة الوعي الإنساني والسياسي بالقضية الفلسطينية، على المستويين المحلي والعالمي. لقد كشفت هشاشة النظام الدولي، وفضحت ازدواجية المعايير الغربية، وفي الوقت ذاته أعادت فلسطين إلى واجهة الضمير العالمي. مؤكدة أن الحق لا يُقهر مهما طال الصمت. واليوم، لم يعد السؤال إن كانت غزة قادرة على الصمود، بل كيف يمكن استثمار هذا التحول في الرأي العام العالمي لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، بحيث يتحول من خطاب مظلومية إلى مشروع تحرر جامع وعميق، يستند إلى قوة الحق وإرادة الشعوب وقيم العدالة والكرامة. لذا تطرح هذه اللحظة سؤالاً محورياً: كيف تحوّلت غزة من مجرد “ملف أمني” في الإعلام الغربي إلى “قضية أخلاقية” تجتاح الوعي الدولي؟ وتعيد تعريف العلاقات بين الشعوب والدول، وتضع ضغوطاً أخلاقية على صانعي القرار العالمي؟ إن القدرة على تحويل هذه الطاقة الإنسانية والسياسية المكتشفة إلى استراتيجية متماسكة قد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التغيير، حيث يصبح الصمود الفلسطيني ليس مجرد مقاومة للبقاء، بل مشروعاً حضارياً يرسّخ العدالة ويعيد التوازن إلى المنطقة والعالم.