سلسلة مقالات للكاتب عائد زقوت

الطموح الفلسطيني: بين الوصاية والدولة

في لحظة سياسية فارقة يتقاطع فيها الإنساني بالاستراتيجي، شهدت قمة شرم الشيخ، الاثنين 13 أكتوبر 2025، حراكًا دوليًا مكثفًا تجاه غزة، لكن هذه المرة ليس عبر العدوان أو عبر فصول جديدة من الأزمات الإنسانية، بل من خلال مقترح لإنشاء إدارة دولية للقطاع بمشاركة فلسطينية رمزية، وذلك في إطار خطة أميركية من عشرين بندًا يجري بحث تفاصيلها حاليًا في شرم الشيخ بمشاركة أطراف عربية ودولية.

إلا أن هذا المقترح يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول مستقبل القضية الفلسطينية:
هل يمثّل مفترقًا تاريخيًا يمكن أن يمهّد الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة؟
أم أنه سيفضي إلى تكريس واقع الدولة الواحدة بتركيبة غير متكافئة؟

تتزايد هذه التساؤلات خاصةً بعد تصريح الرئيس ترامب خلال القمة، والذي أشار فيه إلى “رغبة الكثيرين في مشروع الدولة الواحدة”، ما يُعدّ إشارة واضحة إلى احتمالية انزياح المسار عن حل الدولتين الذي شكّل لسنوات مرجعية التسوية المنشودة.
وفي هذا السياق يبدو الحديث عن إدارة دولية في ظاهره، خطوة إنسانية تهدف إلى إعادة إعمار غزة وتهيئة الظروف لحياة طبيعية بعد سنوات من الحصار والحرب التدميرية، غير أن الهدف السياسي الأعمق لدى كافة المشاركين باستثناء واشنطن يتمثل في ابتكار صيغة انتقالية تنقل إدارة القطاع تدريجيًا إلى السلطة الفلسطينية، تمهيدًا لإحياء خيار الدولتين.
هذا السيناريو يفترض أن تكون الإدارة الدولية مرحلة انتقالية لا وصاية طويلة الأمد، تمتلك تفويضًا واضحًا يضمن إعادة الإعمار، وتوحيد الأجهزة الأمنية، وإجراء انتخابات فلسطينية عامة، وتوفير ضمانات أمنية لإسرائيل تسمح برفع الحصار والانسحاب التدريجي.
نجاح هذه العملية قد يجعل من غزة بوابة لإحياء صيغة الدولتين، وربما الفرصة الأخيرة لإنقاذها من الاحتضار السياسي.

غير أنّ هذه الرؤية تصطدم بواقع أكثر تعقيدًا، حيث يلوح في الأفق احتمال آخر أكثر واقعية في ضوء المعطيات الحالية، يتمثل في أن تتحول الإدارة الدولية إلى آلية لتدوير الصراع وإدامة الوضع القائم، أي أنها قد تتحوّل من جسر نحو الدولة، إلى غطاءً لإدارة الاحتلال بأشكال متعددة، بحيث تبقى السيطرة الأمنية والحدود والمعابر بيد إسرائيل، فيما تتولى جهة دولية إدارة الشؤون المدنية والإغاثية للسكان عبر لجنة مدنية محليّة.
وهنا تكمن المفارقة التاريخية، فغزة التي كانت دومًا النموذج الأصعب في المشروع الوطني الفلسطيني، قد تتحول عبر هذه الإدارة إلى نموذج لـ”تدوير الأزمة” بدلًا من حلها، في انتقال جوهري من سياسة التحرر إلى سياسة الإدارة.

في هذه الحالة يتكرس واقع الدولة الواحدة بحكم الأمر الواقع، حيث يعيش نحو سبعة ملايين فلسطيني وسبعة ملايين اسرائيلي بين النهر والبحر تحت نظام حكم واحد غير متكافئ الحقوق، ويغدو الحديث عن دولتين منفصلتين مجرد شعار لتجميل واقع السيطرة القائم.
وهذا بدوره يشكل استمرارًا لنمط الرعاية الاستعمارية السابقة، لكن بلباس إنساني معاصر “وصاية ناعمة” تقدم نفسها كرعاية وتنمية، بينما تحافظ على الهياكل الأساسية للسيطرة.

وعلى المدى القصير، ستواصل العواصم الكبرى التمسك بخطاب الدولة الفلسطينية لتبرير تدخلها في غزة، غير أنه في الأمد البعيد يبدو أكثر ميلاً إلى تثبيت واقع الدولة الواحدة. فغياب الإرادة السياسية الإسرائيلية، وتردد القوى الدولية في ممارسة ضغط حقيقي على اسرائيل، واستمرار الاستيطان وتفاقم المعضلة الأمنية المرتبطة بسلاح حماس والفصائل الأخرى واستمرار الانقسام الفلسطيني، كلها عوامل تجعل من مشروع الدولة الفلسطينية أقرب إلى الوهم السياسي منه إلى الاحتمال الواقعي.
ووراء هذا الطرح يكمن تحدٍّ سياسي حقوقي فالإدارة الدولية تميل بالضرورة إلى نموذج فلسطيني”مقبول دوليًا” أي منزوع السياسة تقريبًا، يقتصر دوره على إدارة الخدمات، وهو ما يتعارض مع أي مشروع سياسي ديمقراطي حقيقي قد يفرز خيارات غير مريحة للدول المانحة.

الإدارة الدولية، في أفضل الأحوال، قد تؤجل انهيار خيار الدولتين لكنها لن تحييه. فهي تُدار تحت غطاء الوصاية الناعمة وبدوافع استقرار، لكنها ستظل خاضعة للتوازنات الإسرائيلية والدولية، لا للطموح الوطني الفلسطيني.
ومع مرور الوقت، قد تتحول إلى شكل جديد من الوصاية المقنّعة، تُبقي غزة تحت إدارة مدنية رمزية بينما تستمر السيطرة الإسرائيلية على الأرض والسماء والمعابر.
وهكذا نجد أنفسنا أمام حقيقة واضحة أننا فعليًا في واقع الدولة الواحدة، لكن بدرجتين من المواطنة، مواطنة كاملة للإسرائيليين، و”رعاية” متفاوتة للفلسطينيين أي مواطنة منقوصة في الداخل، حكم ذاتي محدود في الضفة، وإدارة دولية مقيدة في غزة.

وهكذا قد يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مفارقة قاسية: المشروع الذي طُرح تحت شعار إعادة الأمل للدولة الفلسطينية، قد يكون هو ذاته الذي يغلق بابها الأخير.
وبين إدارة دولية مؤقتة تتحول إلى دائمة، وحلم وطني مؤجل منذ عقود، تبقى غزة مرآة للمأزق الفلسطيني الأكبر، البحث عن دولة في واقع يتّسع فيه الاحتلال ويتقلص فيه الأفق السياسي يومًا بعد يوم.
ويبقى السؤال المصيري الذي تطرحه هذه الإدارة: هل يمكن تحويلها من أداة لتدوير الصراع إلى أداة للتحوّل نحو مسار يقود فعليًا إلى دولة فلسطينية سياسية؟
أم ستكون الفصل الأخير في مسار حل الدولتين، ليس لأنها تهدف إلى ذلك، بل لأنها تتيح للقوى الفاعلة تجنّب القرارات الصعبة حول السيادة والحدود واللاجئين، مع الاستمرار في إدارة الوضع الراهن إلى ما لا نهاية.
وهكذا يبقى الطموح الفلسطيني معلقا بين إدارة لا تملك السيادة، ودولة لا تجد طريقها الى الوجود.

مصر.. سند فلسطين ودرع العروبة

في يومٍ عظيمٍ بزغ فجره إيذانًا بانقشاع مرحلةٍ مظلمةٍ سوداء حلّت بقضيتنا وبأهل غزة،
الذين اجتازوا مرحلةً مثقلةً بالآلام والأعباء، أثقالٌ تعجز عن حملها الجبالُ الراسيات.
هنيئًا لشعبنا الإنجاز الأهم والأعظم، وقف الموت والخراب، وبقاءه على أرضه متجذرًا بها كأشجار الزيتون.

وفي سياقٍ متصل، لا بدّ من الوقوف إجلالًا وامتنانًا وشكرًا لمصر الكنانة، لشعبها الأبيّ الأصيل، ولخير أجناد الأرض جيشها المغوار، ولزعيمها الذي قاد المركب نحو شاطئ الأمان بدبلوماسيةٍ وقائيةٍ حكيمة، الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي شكّل سدًا منيعًا أمام شلال دمنا النازف، وحمى قضيتنا من الذوبان والتصفية.

لقد جسّد القائد الرئيس السيسي، بمواقفه الثابتة ورؤيته العميقة، روح القيادة المسؤولة التي جمعت بين عمق الانتماء ورجاحة الإدارة، واتساع الرؤية وتقدير الموقف بين الانتماء والواجب.
ومن هنا، كان كما عهدناه، شقيقًا وفيًّا يقف عند المنعطفات الصعبة، فحقّ لمصر تحت قيادته أن تتصدر الموقف العربي بجدارة، حاملةً راية العروبة ومبدأ الدفاع عن فلسطين، كما عهدناها دائمًا قلب الأمة النابض وسندها الأمين.

وستبقى مصر، بأرضها وجيشها وقيادتها وشعبها، ومكانتها الراسخة في وجداننا، محفورةً في ذاكرة فلسطين كما تُحفر العهود في الصخر، وسيسجلها التاريخ بمدادٍ من العز والفخر ما دامت السماوات والأرض.

وفي سياقٍ غير منفصل، نوجّه الشكر والتقدير إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، اللتين عملتا بإخلاصٍ ومسؤولية من وراء الكواليس، دعمًا لجهود إنهاء دائرة الدم والموت، وإسنادًا لكل مسعى يهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطريق أمام حياةٍ تليق بإنسانيّة الفلسطيني.

ناصر القدوة.. في قلب الحسابات الفلسطينية المُقبِلة

في ظل الحراك السياسي المتسارع الذي تشهده الساحة الفلسطينية، تعود إلى الواجهة شخصية دبلوماسية بارزة تمتلك رصيدًا وطنيًا ودوليًا كبيرًا، وبصورة دراماتيكية لموقعه الرسمي في اللجنة المركزية لحركة فتح، حيث يُعد ناصر القدوة ابنًا للمدرسة الوطنية العرفاتية، وأحد أبرز وجوه الدبلوماسية الفلسطينية.
ومع تصاعد الحديث العربي والدولي عن ترتيبات مرحلة ما بعد الحرب في غزة، يبرز اسمه كمرشح محتمل لدور محوري قد يُحدد ملامح المرحلة المقبلة.

في ضوء المعطيات الراهنة في المشهد السياسي، تبرز أمام القدوة احتمالان أساسيان لمستقبله السياسي.
أولهما، توليه رئاسة حكومة فلسطينية انتقالية توافقية، وهو خيار يحظى بدعم ضمني من أطراف عربية فاعلة تسعى لإيجاد قيادة فلسطينية جديدة تحظى بقبول داخلي ودولي. وتُناط بهذه الحكومة مهمتان مركزيتان:
الأولى، إعادة إعمار غزة وتهيئة الأجواء للانتخابات.
والثانية، تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية تُنهي الانقسام وتُعيد توحيد المؤسسات الفلسطينية.

بناءً على ذلك، يُعد القدوة خيارًا مناسبًا لهذا الدور لما يمتلكه من شرعية تاريخية ورمزية بصفته أحد الرموز البارزة لحركة فتح ورفيق درب ياسر عرفات، فضلًا عن قبوله الدولي الواسع بفضل تجربته الطويلة في الأمم المتحدة واستقلاليته عن مراكز النفوذ، مما يجعله شخصية وسطية قادرة على جمع الفرقاء.
غير أنّ هذا المسار يواجه عقبات حقيقية، أبرزها تحفظ بعض القيادات الفلسطينية التي قد تنظر إلى عودته من بوابة الحكومة كتقويض لمكانتها وطموحاتها المستقبلية، إضافة إلى معارضة حركة حماس التي لن تقبل بسهولة بحكومة قد تُعيد السلطة إلى غزة دون تفاهمات وضمانات واضحة لدورها السياسي.

في المقابل، يبدو السيناريو الثاني أكثر واقعية، ويتمثل في تمثيل القدوة للسلطة الفلسطينية ضمن لجنة أو إدارة دولية مقترحة لإدارة غزة مؤقتًا، وهي فكرة يجري تداولها في الأوساط الدبلوماسية وتشمل مشاركة أممية ودولية وإقليمية، مع تمثيل فلسطيني سياسي وشرعي يُحدث توازنًا ضروريًا لاستمرار العمل نحو المسار السياسي المستقبلي.
هذا الدور ينسجم تمامًا مع خبرة القدوة الأممية والدبلوماسية، ويخفف من حدة التحفظات الداخلية لأنه لا يتقاطع مباشرة مع مواقع السلطة التنفيذية، كما ينسجم مع الرغبة الدولية في وجود شخصية فلسطينية موثوقة تمثل السلطة ضمن إطارٍ متعدد الأطراف، دون أن يحدث قطيعة مع الواقع السياسي فلسطينيًا ودوليًا.
وقد يشكل هذا الدور، وإن بدا مؤقتًا، مدخلًا عمليًا لعودته إلى المشهد السياسي وربما لرئاسة السلطة في مرحلة لاحقة.

في هذا الإطار، فإن ناصر القدوة ليس مجرد اسم مطروح في سياق الترتيبات المقبلة، بل يمثل جسرًا سياسيًا بين الداخل الفلسطيني المنقسم والمجتمع الدولي الباحث عن شريك موثوق. فهو يجمع بين رصيد وطني عريق وقبول دولي نادر، ما يجعله أحد أكثر الأسماء ترجيحًا في مرحلة تبحث فيها فلسطين عن إعادة التوازن والشرعية لنظامها السياسي.
وسواءً انتهى به المسار إلى رئاسة الحكومة الانتقالية أو إلى تمثيل السلطة في إدارة دولية لغزة، يبقى القدوة شخصية قادرة على الربط بين تعقيدات الواقع الفلسطيني ومتطلبات التفاهمات الإقليمية والدولية، في محاولة لفتح أفق سياسي جديد يُعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com