الداعشية الثقافية… خنجرٌ في خاصرة الوعي ..!

بقلم : د. عبدالرحيم جاموس
حين يتحوّل المثقف إلى مبرّرٍ للجريمة، تصبح الكلمة خنجراً، والثقافة ساحةً للقتل الرمزي.
لم تعد “الداعشية” محصورةً في أولئك الذين يذبحون ضحاياهم على قارعة الطريق، أو في الزنازين والمعتقلات دون أن يرفّ لهم جفن، بل اتسعت لتلبس ثوباً جديداً أكثر خطورة ودهاءً: الداعشية الثقافية ، ذلك الفكر الذي يمنح القتلة شرعيةً فكرية ومجتمعية وغيرها ، ويُزيّن الجريمة بمفرداتٍ مموّهةٍ من الوطنية أو الدين أو المقاومة.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة أن حَمَلَتها ليسوا من الجهلة أو المأجورين، بل من أولئك الذين يَدّعون الثقافة ويحتكرون المنابر ، يبررون القتل خارج القانون، ويصمتون على جرائم ضد الإنسانية، فيتحولون من صوتٍ للضمير إلى أداةٍ لتزييف الوعي وتبرير الفظائع.
فالمثقف الذي يُسوّغ للعنف أو يلتزم الصمت أمامه، يسقط أخلاقياً قبل أن يسقط سياسياً، لأنه يقتل المعنى ويمسخ الوعي ويُفقد المجتمع مناعته الأخلاقية.
لقد تجلّت هذه الداعشية الثقافية بوضوح في قطاع غزة، حين سارع بعض من يَدّعون الثقافة إلى تبرير جرائم القتل والإرهاب بحق الفلسطينيين أنفسهم، ومنحوا القتلة غطاءً خطابياً يخدم مشروعاً مشوّهاً لإعادة صياغة علاقة تخادمٍ شاذة مع الاحتلال، تضمن بقاء سلطةٍ أمرٍ واقعٍ غاصبةٍ للقطاع، وتُبقي على الانقسام السياسي والجغرافي الذي يُدمّر وحدة الأرض والشعب والقيادة، ويقوّض المشروع الوطني الفلسطيني في قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
إن الداعشية الثقافية أخطر من كل سلاحٍ مادي، لأنها تزرع الفوضى في العقول وتغتال الضمير الجمعي للأمة، وتحوّل الثقافة من فعل تحرّرٍ وتنوير إلى أداة تبريرٍ وتخدير.
فحين تُستبدل العدالة بالولاء، ويُستبدل الوعي بالخطاب الزائف، يصبح المجتمع مهيأً للانهيار والانتحار الذاتي.
إن مواجهة هذه الداعشية الجديدة مسؤولية وطنية وأخلاقية تقع على المثقفين الأحرار أولاً، الذين لا يبيعون كلمتهم للسلطان، ولا يبررون القمع تحت أي ذريعة.
فالكلمة التي تبرر القتل، تشارك في القتل.
ولا نهضة لأمةٍ تبرّر دماء أبنائها، أو تصمت على إعدام وعيها.
فالمجتمع الذي يسمح بتسويق الجريمة ثقافياً، إنما يحكم على نفسه بالوأد في الرمال والغرق في الظلام.
ولا خلاص إلا باستعادة الضمير الجمعي، وإعادة الاعتبار للكلمة الحرة، لتظل الثقافة سلاح الوعي، لا خنجراً في خاصرته.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض/السبت
18/10/2025 م



