سندات الدين الحكومية الفلسطينية: دراسة اقتصادية وقانونية في ضوء التعديلات الأخيرة على قانون الدين العام وإنشاء حساب الوفاء

إعداد: المحامي علي أبو حبلة
كاتب ومحلل سياسي وباحث قانوني – رئيس تحرير صحيفة صوت العروبة
أولًا: المقدمة
يشهد النظام المالي الفلسطيني مرحلة مفصلية في إدارة الدين العام، بعد صدور التعديلات الأخيرة على قانون الدين العام بتاريخ 27 أكتوبر 2025، والتي نصّت على استحداث مادة جديدة (12 مكرّر) تُنشئ حسابًا خاصًا باسم “حساب الوفاء”، تُرصد فيه المبالغ اللازمة لسداد الالتزامات الناشئة عن إصدارات سندات الدين الحكومية.
هذه الخطوة تحمل أبعادًا اقتصادية وقانونية عميقة، وتفتح المجال أمام اعتماد أدوات الدين العام كوسيلة تمويل داخلية، وتعيد تشكيل العلاقة بين الحكومة والقطاع المصرفي ضمن إطار جديد من الانضباط المالي والشفافية.
ثانيًا: الإطار القانوني العام
- قانون الدين العام الفلسطيني (رقم 24 لسنة 2005)
ينظم هذا القانون عمليات الاقتراض الداخلي والخارجي وآليات إدارة الدين العام، وحدّد حدود الاستدانة بما يتناسب مع الناتج المحلي الإجمالي.
التعديل الأخير أضاف آلية تنفيذية جديدة ضمن المادة (6) تنص على إنشاء حساب “الوفاء”، وهو ما يشكّل تطورًا تشريعيًا نوعيًا لضمان سداد الديون وفق نظام رقابي محكم.
- مضمون المادة (6) المضافة
إنشاء حساب خاص في وزارة المالية لرصد المبالغ اللازمة لسداد التزامات الحكومة الناجمة عن سندات الدين.
حظر استخدام أموال الحساب في أي أغراض غير مخصصة.
تحويل المخصصات المالية تلقائيًا في مواعيد الاستحقاق.
إلزام وزير المالية بتغطية أي عجز يظهر في الحساب من الخزينة العامة.
تنظيم إدارة الحساب ومصادر تمويله بقرار من مجلس الوزراء.
- الإضافة التشريعية للمادة (7)
أجازت هذه المادة إصدار سندات الدين الحكومية كوسيلة للاقتراض الداخلي، وهو ما يمنح الإطار القانوني الكامل لإصدار أدوات الدين العام من قبل وزارة المالية الفلسطينية لأول مرة ضمن نظام متكامل.
ثالثًا: الطبيعة القانونية لسندات الدين الحكومية
سندات الدين الحكومية هي صكوك مالية رسمية تمثل التزامًا قانونيًا على الدولة تجاه حامل السند، تتعهد من خلالها الحكومة بدفع مبلغ محدد في تاريخ استحقاق معين مع فائدة دورية ثابتة.
من حيث المبدأ القانوني، تُعد هذه السندات:
دينًا عامًا مضمونًا بخزينة الدولة.
قابلة للتداول والتحويل بموجب اللوائح المالية.
أداة قانونية نافذة التنفيذ بموجب التشريع المالي والإداري.
ويستتبع ذلك أن حامل السند يتمتع بصفة الدائن القانوني للدولة، وله الحق في المطالبة بالسداد وفق أحكام العقد العام وأحكام القانون المدني.
رابعًا: التحليل الاقتصادي
- أهداف إصدار السندات الحكومية
تمويل العجز في الموازنة العامة دون اللجوء إلى الاقتراض الخارجي.
توفير أداة استثمار آمنة للبنوك المحلية، بما يعزز استقرار الجهاز المصرفي.
توسيع قاعدة السيولة الحكومية من خلال تعبئة المدخرات الوطنية.
- الأثر على الاقتصاد المحلي
إصدار السندات يتيح للحكومة إدارة دينها بمرونة أكبر، لكنه في المقابل يزيد من عبء خدمة الدين العام (الفوائد).
يسهم في تحريك السوق المالي الداخلي إذا ما تم تنظيم تداول هذه السندات بين البنوك والمؤسسات المالية.
يمثل خطوة نحو بناء سوق سندات وطني يمكن أن يُستخدم مستقبلاً في السياسة النقدية الفلسطينية.
خامسًا: موقف البنوك الفلسطينية وسلطة النقد
حتى تاريخ إعداد هذه الدراسة، لم تصدر تعليمات تنفيذية رسمية من سلطة النقد الفلسطينية تجيز للبنوك قبول سندات الدين الحكومية كوسيلة سداد أو كضمان للقروض.
لكن التعديلات القانونية الأخيرة تمهد الطريق لإصدار مثل هذه التعليمات مستقبلًا، حيث أن “حساب الوفاء” يُعتبر ضمانة قانونية للسداد في مواعيد الاستحقاق، مما يجعل السندات أدوات مالية منخفضة المخاطر.
بالتالي، يُتوقع أن:
تقوم سلطة النقد بإصدار نظام تداول وخصم للسندات الحكومية على غرار آلية سندات الخزينة في الأردن ومصر.
تبدأ البنوك باقتنائها ضمن محافظها الاستثمارية بدل الودائع طويلة الأجل.
تُقبل مستقبلاً كضمانات أو كوسيلة تسوية بين الحكومة والقطاع المصرفي.
سادسًا: التحليل القانوني للتصرف بالسندات
من حيث المبدأ القانوني، يجوز للموظف أو حامل السند التصرف به بيعًا أو تنازلًا أو خصمًا متى تم السماح بتداوله رسميًا.
لكن الواقع التنفيذي مرتبط بصدور نظام خاص من مجلس الوزراء يحدد طبيعة السندات (اسمية أو لحاملها) وآلية نقل الملكية.
حتى صدور هذه التعليمات، تظل السندات دينًا ثابتًا غير قابل للتحويل إلا بموافقة وزارة المالية.
سابعًا: تجارب عربية مقارنة
- الأردن:
تعتمد الحكومة الأردنية إصدار سندات خزينة محلية تشتريها البنوك، وتُستخدم كأداة للسياسة النقدية.
- مصر:
سندات الدين الحكومي تُعد من أهم أدوات التمويل الداخلي، وتقبلها البنوك كضمانات.
- لبنان:
أزمة الدين السيادي أبرزت أهمية وجود حسابات مخصصة لسداد الديون، وهو ما يشبه “حساب الوفاء” في التعديل الفلسطيني.
ثامنًا: التحديات القانونية والتنظيمية
غياب نظام تداول واضح للسندات الحكومية.
عدم وجود تعليمات من سلطة النقد تحدد كيفية قبولها كوسيلة سداد.
احتمال تأثر السوق النقدي بسيولة السندات وقيمتها السوقية.
ضرورة إصدار لوائح تفصيلية حول إجراءات المقاصة والمحاسبة بين الحكومة والبنوك.
تاسعًا: التوصيات
- إصدار نظام تنفيذي من مجلس الوزراء يحدد آلية إصدار وتداول سندات الدين الحكومية.
- إعداد تعليمات مصرفية من سلطة النقد الفلسطينية لتنظيم قبول السندات كضمان أو كوسيلة سداد.
- إنشاء سوق ثانوي محلي لتداول سندات الدين الحكومية تحت إشراف سلطة النقد.
- نشر تقارير دورية عن أداء “حساب الوفاء” لتعزيز الشفافية والمساءلة.
- توسيع المشاركة المجتمعية في الاكتتاب بالسندات لتقليل الاعتماد على القروض الخارجية.
عاشرًا: الخلاصة
تمثل التعديلات الأخيرة على قانون الدين العام الفلسطيني، وخاصة إنشاء “حساب الوفاء”، خطوة قانونية رائدة نحو إرساء نظام مالي مستدام يضمن سداد الديون الحكومية وفق آليات شفافة ومنضبطة.
ورغم أن البنوك الفلسطينية لم تبدأ فعليًا في التعامل بهذه السندات حتى الآن، فإن الأساس القانوني أصبح متوفرًا، والمرحلة المقبلة تتطلب استكمال البناء المؤسسي والتنظيمي لضمان فاعلية هذه الأداة في إدارة الدين العام وتعزيز الثقة في المالية العامة للدولة الفلسطينية.
 
 


