الضفة الغربية تحت القمع الممنهج: قراءة في تصعيد الاحتلال وانعكاساته.. بقلم: د. عبد الرحيم جاموس

تشهد الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة تصعيدًا خطيرًا في الإجراءات القمعية التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد السكان الفلسطينيين، في سياق يبدو متعمدًا وممنهجًا، يتجاوز حدود “الضبط الأمني” نحو تكريس واقع سياسي جديد، يقوم على التوسع، والضمّ، وتحويل حياة الفلسطينيين إلى دائرة خنق يومي لا تنقطع.
هذا التصعيد لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات السياسية داخل إسرائيل، ولا عن البيئة الإقليمية والدولية التي توفّر للاحتلال هامشًا واسعًا للإفلات من العقاب.

أولًا: الاعتقال كأداة للهيمنة وإنتاج الخوف …

توسّعت حملات الاعتقال بشكل لافت، وأصبحت جزءًا ثابتًا من المشهد اليومي في الضفة الغربية.
فالاقتحامات الليلية، ومداهمة البيوت، وإتلاف الممتلكات، والاعتقال الإداري دون محاكمة، تُعدّ أدوات قسرية تهدف إلى خلق حالة مستدامة من الخوف والسيطرة، وإفراغ المجتمع الفلسطيني من قياداته ونخبه ونشطه.
هذا الاستخدام الموسّع للاعتقال الإداري، الذي يتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي، يؤكد أن الاحتلال يوظّف الأجهزة الأمنية كوسيلة سياسية لا كإجراء أمني محدد.

ثانيًا: الاستيطان ومصادرة الأرض…
مشروع ضمّ دون إعلان …

الزحف الاستيطاني المتسارع، خصوصًا عبر إنشاء “البؤر الرعوية” وتوسيع محيط المستوطنات، يشير بوضوح إلى أن إسرائيل تنفّذ على الأرض سياسة ضمّ زاحف، من دون الحاجة إلى إعلان رسمي.
فمصادرة آلاف الدونمات، وتجريف الأراضي الزراعية، وتضييق الخناق على المزارعين والرعاة، ليست إجراءات منفصلة، بل جزء من هندسة جغرافية تهدف إلى تفتيت الضفة الغربية وتحويلها إلى جزر معزولة، ناهيك عن تقويض قدرة الفلسطينيين على الحفاظ على تواجدهم وموارد رزقهم.

ثالثًا: هدم المنازل والعقاب الجماعي …

لم تعد سياسة هدم المنازل تتم بدعوى البناء غير المرخّص فقط، بل تحوّلت إلى عقاب جماعي يستهدف عائلات كاملة ومجتمعات محلية، وخصوصًا في القدس ومناطق (ج) وغيرها .
إلى جانب الهدم، تُفرض غرامات باهظة، وتُمنع التراخيص، وتُعطّل المخططات الهيكلية، في محاولة واضحة لدفع الفلسطينيين إلى الرحيل القسري، وإعادة تشكيل البيئة الديموغرافية لصالح المشروع الاستيطاني.

رابعًا: الحواجز العسكرية…
صناعة الجحيم اليومي ...

ازداد عدد الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش، وتوسعت إجراءات الإغلاق، ما أدى إلى عزل المدن والقرى والأحياء بعضها عن بعض.
هذه السياسة تخلق واقعًا خانقًا يعطّل الحياة الاقتصادية والتعليمية والصحية، ويحوّل التنقل إلى مغامرة محفوفة بالإذلال والتهديد.
بهذه الأدوات، يصنع الاحتلال “جحيمًا تدريجيًا” يهدف إلى إنهاك الفلسطينيين وإشعارهم بأن البقاء في أرضهم أصبح ضربًا من ضروب المستحيل.

خامسًا: الدلالات السياسية…
مشروع كامل لا إجراءات متفرقة

إن تجميع هذه السياسات معًا من الاعتقال، والهدم، والمصادرة، والحصار، وتوسيع المستوطنات كل ذلك يكشف بوضوح أن ما يجري في الضفة الغربية ليس ردود فعل أمنية، بل سياسة رسمية تسعى إلى:

1. تقويض الوجود الفلسطيني وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.

2. فرض وقائع نهائية تعطل أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

3. تعزيز هيمنة المستوطنين وتوسيع نفوذهم الأمني والسياسي.

4. ابتزاز القيادة الفلسطينية وإضعاف مؤسساتها.

كما يعكس هذا النهج اعتقادًا إسرائيليًا بأن البيئة الدولية الحالية المنشغلة بأزماتها ، لن تفرض أي تكلفة سياسية على الاحتلال، وأن الولايات المتحدة مستمرة في توفير الحماية الدبلوماسية.
نخلص إلى القول:
إن التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية ليس إلا امتدادًا لمشروع استعماري طويل، يستند إلى القوة والعقاب الجماعي والتنكر للقانون الدولي.
ورغم محاولات الاحتلال تحويل الحياة الفلسطينية إلى دائرة من الألم المستمر، يبقى الشعب الفلسطيني متمسكًا بأرضه وحقوقه الوطنية الثابتة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين في العودة والتعويض.
إن إعادة الاعتبار لهذه الحقوق، وتحميل الاحتلال مسؤولية انتهاكاته، هي مسؤولية وطنية ودولية على السواء، وضرورة لإنهاء هذا الفصل الطويل من الظلم التاريخي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.

د. عبد الرحيم جاموس
الرياض 2/12/2025 م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com