“انتفاضة الحجارة”.. بعد ثمانية وثلاثين عامًا: قراءة استراتيجية لإعادة تشكيل الوعي الفلسطيني… بقلم المحامي علي أبو حبلة

تحلّ الذكرى الثامنة والثلاثون لاندلاع انتفاضة الحجارة لتعيد إلى الذاكرة واحدة من أبرز محطات التاريخ الفلسطيني الحديث، حيث لم تكن مجرد احتجاج شعبي، بل تجربة أعادت تشكيل بنية الوعي الوطني وأسست لإدارة جديدة للصراع، تقوم على مركزية النضال الشعبي، ووحدة الموقف الوطني، والتأثير في الرأي العام الدولي عبر مقاومة مدنية واسعة النطاق.
الانتفاضة في سياقها التاريخي
انطلقت الانتفاضة في ديسمبر 1987 كرد فعل على سنوات طويلة من الاستيطان والسياسات الإقصائية، لكنها سرعان ما تحولت إلى حركة وطنية جامعة، جمعت المدن والمخيمات والقرى في مواجهة الاحتلال. وباتت الفعل الشعبي نفسه أداة سياسية وإعلامية وقانونية، تؤكد قدرة الفلسطيني على فرض أجندته، واستعادة هويته الوطنية أمام محاولات التذويب والطمس، ضمن جبهة صلبة عابرة للفصائل حول شعار أساسي: الحرية وإنهاء الاحتلال.
البعد القانوني وتدويل العدالة
على المستوى القانوني، كانت الانتفاضة نقطة فاصلة دفعت المجتمع الدولي لإعادة تقييم سلوك إسرائيل وفق القانون الدولي. فقد وثقت التقارير الحقوقية استشهاد 1162 فلسطينيًا بينهم 241 طفلًا، وإصابة نحو 90 ألفًا، وهدم 1228 منزلًا واقتلاع 140 ألف شجرة، إضافة إلى اعتقال 60 ألف فلسطيني دون ضمانات محاكمة عادلة. هذه الانتهاكات عززت المطالبة القانونية بمحاسبة الاحتلال، ومنحت الشرعية للمقاومة الشعبية كوسيلة مشروعة ضد القوة القائمة بالاحتلال وفق القانون الدولي.
الأبعاد السياسية والاستراتيجية
لم تكن الانتفاضة مجرد احتجاج شعبي، بل شكّلت تحولًا استراتيجيًا في الصراع. فقد كسرت الهالة حول الجيش الإسرائيلي، وكشفت محدودية القوة العسكرية في مواجهة مقاومة شعبية سلمية ذات أثر رمزي وسياسي كبير. ومن أبرز نتائجها: إعلان الاستقلال عام 1988، وفرض مسار المفاوضات وصولًا إلى اتفاق أوسلو، ونقل الرواية الفلسطينية إلى الإعلام الدولي، وإعادة توحيد الفعل الوطني ضمن إطار سياسي مشترك.
الانتفاضة كرافعة للصمود الوطني
أسست الانتفاضة لبنية مجتمعية صلبة تقوم على التكافل والتضامن الشعبي، وأصبحت مدرسة في التنظيم الشعبي، عصية على الاختراق، وأنتجت قيادات ميدانية جديدة. كما شكلت نموذج مقاومة مدنية متكاملًا يجمع بين الاحتجاج، والمقاطعة الاقتصادية، والإضرابات، وإدارة العصيان المدني، في تجربة قلّ نظيرها عالميًا.
الذكرى في ظل الحرب على غزة
تأتي ذكرى الانتفاضة اليوم في ظل حرب إبادة شاملة على غزة، وتصعيد عسكري واستيطاني في الضفة الغربية، وإعادة تشكيل النظام الدولي، ومحاولات فرض حلول منقوصة للقضية الفلسطينية. هذا الواقع يؤكد ضرورة العودة إلى دروس الانتفاضة ليس فقط كذكرى، بل كمنهج عملي لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
دروس استراتيجية للمرحلة الراهنة
تطرح تجربة الانتفاضة دروسًا واضحة: أن الوحدة الوطنية شرط وجودي، وتشكيل حكومة إنقاذ أو حكومة تكنوقراط قادرة على توحيد الضفة وغزة ضرورة عاجلة، مع اعتماد استراتيجية مقاومة شعبية منظمة بالتوازي مع أدوات دبلوماسية وقانونية، وتعزيز الصمود الاقتصادي والاجتماعي لحماية النسيج الوطني، واستثمار التضامن الدولي لدعم مكانة القضية الفلسطينية، وتحويل التضحيات إلى مكاسب سياسية وقانونية مستدامة.
استعادة روح الانتفاضة
إعادة إنتاج نموذج انتفاضة الحجارة بصيغته الكلاسيكية صعب اليوم، لكن استعادة روحها من خلال وحدة وطنية، وزخم شعبي، ومقاومة مدنية منظمة ممكنة وضرورية، مع تكييف فلسفة العمل مع التحولات الميدانية والسياسية، بما يعكس قدرة الشعب الفلسطيني على التأثير في مجريات الصراع والحفاظ على حقوقه غير القابلة للتصرف.
خاتمة
بعد ثمانية وثلاثين عامًا، تظل انتفاضة الحجارة محطة مضيئة ونقطة تحول تاريخية، تؤكد أن الشعوب القادرة على توحيد إرادتها ووعيها وهدفها يمكنها إعادة تشكيل مسارات تاريخها. في ظل تحديات وجودية غير مسبوقة، فإن استلهام تجربة الانتفاضة ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وطنية لإطلاق مرحلة جديدة تقوم على الوحدة – الصمود – التنظيم – الفعل الشعبي – الحضور الدولي – والتمسك بالحقوق غير القابلة للتصرف.



