فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا …!.. نصٌّ بقلم/ د. عبدُ الرَّحِيمِ جامُوس

فِي الْبَدءِ…
كَانَ الْكَوْنُ يَتَلَمَّسُ صَوْتَهُ الْأَوَّل،
وَتَفْتَحُ الطَّبِيعَةُ كَفَّهَا
كَأُمٍّ تُهَدْهِدُ طِفْلًا لَا تَعْرِفُهُ…
وَمِنْ ذَلِكَ الْهَمْسِ
تَعَلَّمْنَا أَنَّ الْجَمَالَ
لَا يَكْتَمِلُ دَاخِلَ حُدُودِ ذَاتِهِ …

لَا شَيْءَ فِي الطَّبِيعَةِ…
يَعِيشُ لِنَفْسِهِ…

النَّهْرُ …
يَمْضِي كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ آخِرِهِ …
فِي عَطَشِ الْآخَرِينَ،
وَيَعْبُرُ الْقُرَى وَالْقُلُوبَ
وَلَا يَشْرَبُ مِنْ دَفْقِهِ قَطْرَةً…
كَأَنَّ الْمَاءَ يُذَكِّرُنَا…
أَنَّ الْأَصْلَ
أَنْ نَبْلُغَ غَيْرَنَا…

الشَّجَرَةُ …
تُلْقِي ظِلَّهَا
عَلَى مَنْ لَا يَسْأَلُهَا اسْمَهَا،
وَتُدَلِّي ثِمَارًا
لَا تَعُودُ إِلَيْهَا…
وَتَهْمِسُ:
الْعَطَاءُ
هُوَ الْجِذْرُ الْحَقِيقِيُّ لِلْحَيَاةِ…

الشَّمْسُ …
تَشُقُّ لَيْلَهَا بِنَصْلِ الضِّيَاءِ،
وَتُقَدِّمُ نَهَارًا صَافِيًا لِلنَّاسِ،
ثُمَّ تَعُودُ وَحْدَهَا
دُونَ دِفْءٍ…
كَأَنَّهَا تُؤْمِنُ
أَنَّ النُّورَ يَنْتَصِرُ
حِينَ لَا يَنْتَظِرُ شَيْئًا…

الزَّهْرَةُ …
تَضَعُ عَبِيرَهَا فِي الرِّيحِ
ثُمَّ تَغِيبُ،
وَيَمْكُثُ الْعِطْرُ
أَطْوَلَ مِنْ عُمْرِهَا…
كَأَنَّ الْأَثَرَ
أَصْدَقُ مِنَ الْحُضُورِ …

هَكَذَا نَحْنُ…
لَا تَكْتَمِلُ إِنْسَانِيَّتُنَا …
إِلَّا إِذَا صِرْنَا جِسْرًا،
أَوْ ظِلًّا،
أَوْ دَفْقَةَ مَاءٍ
تَسْبِقُ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا…

فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا،
كَمَا تَعِيشُ الطَّبِيعَةُ لَنَا؛
نُمْسِكُ يَدًا تَتَعَثَّرُ،
وَنَفْتَحُ نَافِذَةً أَغْلَقَهَا التَّعَبُ،
وَنَتْرُكُ فِي الطَّرِيقِ
نُورًا لَا نَحْتَاجُهُ…

لَعَلَّ رَحْمَةً صَغِيرَةً …
نَزْرَعُهَا الْيَوْمَ،
تُصْبِحُ غَدًا قِنْدِيلًا
يُضِيءُ خُطَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا،
فَيَقُولُ وَهُوَ يَمُرُّ بِالْأَثَرِ:
مَرَّ مِنْ هُنَا إِنْسَانٌ …
أَحَبَّ الْعَالَمَ
أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ…!

د. عبدُ الرَّحِيمِ جامُوس
الرياض
10 ديسمبـر 2025 م

هذا النص الأدبي للكاتب د. عبد الرحيم جاموس هو قطعة فنية عميقة وثرية بالمعاني الإنسانية، ويستحق فعلاً القراءة والنشر.
إليك قراءة أدبية تحليلية للنص بعنوان: “فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا…”: رسالة العطاء المتجذرة في سر الوجود
بقلم د.عادل جوده /العراق/ كركوك

🖋️ “فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا…”: رسالة العطاء المتجذرة في سر الوجود

يقدّم الكاتب د. عبد الرحيم جاموس في نصه البليغ “فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا…” دعوة إنسانية صريحة ونبيلة تتجاوز حدود الذات لتلامس جوهر الوجود، مُتّخذاً من الطبيعة مُعلّماً وفيلسوفاً. النص ليس مجرد كلمات، بل هو قصيدة نثرية تُرسّخ مفهوم التكافل والعطاء غير المشروط كقانون أصيل للحياة.
يبدأ الكاتب برصدٍ فلسفي لبداية الخلق، حيث كان “الْكَوْنُ يَتَلَمَّسُ صَوْتَهُ الْأَوَّل”، مُشَبّهاً الطبيعة بـ”أُمٍّ تُهَدْهِدُ طِفْلًا لَا تَعْرِفُهُ”، ليخلص إلى أن “الْجَمَالَ لَا يَكْتَمِلُ دَاخِلَ حُدُودِ ذَاتِهِ”. هذه الجملة هي المفتاح الذي يفتح باب الرؤية المركزية للنص: أن الاكتمال لا يتحقق بالانغلاق، بل بالانفتاح والبذل.
ثم ينتقل جاموس إلى توظيف ذكي لرموز الطبيعة، مُحوِّلاً إياها إلى نماذج عليا للتضحية:
* النهر:
يُصوَّر كرمزٍ للانطلاق نحو الغير، “يَمْضِي كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ آخِرِهِ فِي عَطَشِ الْآخَرِينَ”، في إشارة واضحة إلى أن الهدف الأسمى للحركة هو خدمة الآخر، وأنّ جوهر الماء هو “أَنْ نَبْلُغَ غَيْرَنَا”.
* الشجرة:
هي أيقونة الكرم الصامت؛ تُلقي بظلها وثمارها على “مَنْ لَا يَسْأَلُهَا اسْمَهَا”، لتهمس بحقيقة أنّ “الْعَطَاءُ هُوَ الْجِذْرُ الْحَقِيقِيُّ لِلْحَيَاةِ”.
* الشمس:
تُمثّل التضحية المُطلقة، “تَشُقُّ لَيْلَهَا بِنَصْلِ الضِّيَاءِ”، ثم “تَعُودُ وَحْدَهَا دُونَ دِفْءٍ”، في تجسيد لمبدأ البذل الذي لا ينتظر مقابلاً، لأن “النُّورَ يَنْتَصِرُ حِينَ لَا يَنْتَظِرُ شَيْئًا”.
* الزهرة:
تُقدّم درساً في الخلود المعنوي، فـ”يَمْكُثُ الْعِطْرُ أَطْوَلَ مِنْ عُمْرِهَا”، مُؤكدةً أن “الْأَثَرَ أَصْدَقُ مِنَ الْحُضُورِ”.
يُتّوج الكاتب هذه المشاهد بدعوة صريحة ومباشرة: “فَلْنَعِشْ لِبَعْضِنَا، كَمَا تَعِيشُ الطَّبِيعَةُ لَنَا”. هنا، تُصبح الإنسانية مشروعاً للعطاء المشترك: أن نصير “جِسْرًا”، أو “ظِلًّا”، أو “دَفْقَةَ مَاءٍ تَسْبِقُ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا”.
يختتم النص بصورة بهيّة ومؤثرة للهدف الأقصى من هذا العيش المشترك، وهو زرع “رَحْمَةً صَغِيرَةً” تُصبح “قِنْدِيلًا” يهدي من يأتي بعدنا. وينتهي المشهد ببلاغة فائقة عند الأثر المتروك، ليقول العابر: “مَرَّ مِنْ هُنَا إِنْسَانٌ … أَحَبَّ الْعَالَمَ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ!”.
إنّ هذا النص ليس مجرد تأمُّل، بل هو ميثاق إنساني يدعو إلى إحياء قيمة الإيثار كمحور للوجود، مُبرِزاً أن الخلود الحقيقي هو في الأثر الذي نتركه لا في الذات التي نحافظ عليها.

تحياتي واحترامي🌸🌺

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com