اللي بيته من زجاج… لا يرمي الناس بالحجارة.. بقلم/ دكتورة شرين الناجي

في الوجدان الشعبي، لا يُقال المثل عبثًا، ولا يُتداول إلا لأنه وُلد من تجربة جمعية طويلة مع البشر وأخطائهم. ومثل «اللي بيته من زجاج ما برمي الناس بالحجارة» ليس مجرد حكمة أخلاقية عابرة، بل قاعدة سلوكية وقانونية وسياسية، تصلح لأن تكون ميزانًا للنقد، ومعيارًا للمساءلة، وضابطًا للخطاب العام.

هذا المثل يضعنا أمام حقيقة بسيطة وصادمة في آنٍ معًا: من يملك سجلًا مثقلاً بالأخطاء، أو تاريخًا ملتبسًا بالقصور والتقصير، يفقد أهليته الأخلاقية قبل السياسية في محاكمة الآخرين. فالنقد ليس حقًا مطلقًا يُمارَس بلا قيود، بل مسؤولية تسبقها مراجعة للذات، وجرأة في الاعتراف، ونزاهة في المقارنة.

حين يتحول النقد إلى رجم

في واقعنا العام، كثيرًا ما نشهد أصواتًا ترفع راية «الإصلاح» وهي أول من عطّل الإصلاح، وتطالب بـ«المساءلة» وهي أبعد ما تكون عنها، وتدين الفساد وهي غارقة في شبكاته. هؤلاء لا يمارسون نقدًا، بل رجمًا بالحجارة من بيوتٍ زجاجية، يتوهم أصحابها أن الصراخ العالي يغطي على الشقوق، وأن الاتهام المسبق يُخفي العجز.

الخطر هنا لا يكمن فقط في النفاق، بل في تشويه مفهوم النقد ذاته. فحين يُستخدم النقد أداة للتشفي أو تصفية الحسابات أو التزلف للسلطة، يتحول من فعل إصلاحي إلى سلوك هدّام، يزرع الشك، ويهدم الثقة، ويُغذّي الانقسام.

بين الحكمة الشعبية ومبدأ سيادة القانون

هذا المثل الشعبي يتقاطع بعمق مع جوهر سيادة القانون، التي تقوم على مبدأ «المساءلة المتكافئة» لا «الانتقائية». فلا يجوز لمن هو موضع مساءلة أن يتصدر منصة الاتهام، ولا لمن أخفق في أداء واجبه أن يتحول إلى قاضٍ أخلاقي على الآخرين. فالقانون، كما الحكمة، يبدأ من الذات قبل الآخر.

ومن هنا، فإن أخطر ما يواجه المجتمعات ليس الخطأ بحد ذاته، بل إنكار الخطأ، وتجميل الفشل، وإسقاطه على الآخرين. فالمجتمع الذي يُكافئ من يرمي الحجارة من بيته الزجاجي، هو مجتمع يشرعن الازدواجية ويقنن الظلم.

مراجعة الذات شرط الإصلاح

الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بفضح الآخرين، بل بكشف الذات على حقيقتها. لا يبدأ بالخطاب العالي، بل بالمسؤولية الصامتة. ولا يقوم على الشماتة، بل على العدل. فالنقد النزيه لا يخشى أن يطال صاحبه أولًا، ولا يخجل من الاعتراف بالخطأ، لأنه يرى في الاعتراف قوة لا ضعفًا.

خاتمة

«اللي بيته من زجاج ما برمي الناس بالحجارة» ليست نصيحة أخلاقية فحسب، بل تحذير سياسي وقانوني واجتماعي. تحذير من وهم الطهارة الكاذبة، ومن ثقافة الاتهام بلا محاسبة، ومن خطاب يدّعي الإصلاح وهو عاجز عن إصلاح نفسه. وفي زمن الأزمات، أحوج ما نكون إلى من يُصلح بيته أولًا، قبل أن يشهر الحجارة في وجه الآخرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com