سماسرة “الفكة” في غزة.. خنجرٌ في خاصرة الصمود

بقلم: د. سلامه أبو زعيتر
لم تكتفِ آلة الحرب التي تعصف بقطاع غزة بإنهاك الأجساد وتدمير الممتلكات وفقدان الأحبة، بل أفرزت خلفها أزمات تنهش في كرامة الإنسان وتستنزف مدخراته البسيطة. واليوم، يواجه المواطن المكلوم “حرباً من نوع آخر”، بطلها هذه المرة “تجار الأزمات” وسماسرة السيولة الذين حوّلوا حاجة الناس اليومية لـ “الفكة” إلى تجارة رابحة تُدار بوقاحة تحت وطأة المعاناة.
تُعتبر “الفكة” اليوم كسلعة للمقايضة؛ فأصبح الحصول على بضعة شواكل لتأمين ثمن ربطة خبز، أو شراء مياه الشرب، أو شراء حطب، أو دفع أجرة مواصلات، رحلة بحث شاقة تبدأ مع خيوط الفجر الأولى. والمفارقة المؤلمة هي ظهور سوق سوداء تُباع فيها “الفكة” بنسبة عمولة تصل إلى 20%، وهذا الاستنزاف لا يقل قهراً عن الدمار؛ فالمواطن الذي يشتري ماله بماله، يجد نفسه أمام “ربا مُقنّع” يُمارس علانية، حيث تلاشت قيم النخوة والشهامة التي لطالما كانت سياجاً يحمي المجتمع في الأزمات والنكبات.
وحتى الحلول الرقمية (التطبيقات البنكية) التي استبشرنا بها خيراً لتجاوز نقص السيولة، تحولت إلى فخ جديد؛ إذ يعمد بعض التجار بوقاحة وصلف إلى تحميل المشتري “فرق العملة” أو زيادة سعر البضاعة عند الدفع الإلكتروني، وكأنهم يشاركون المواطن في رغيف خبزه!
إن هذه الظاهرة تحتاج لتدخل عاجل من جهات الاختصاص لمواجهة هذه “اللصوصية”، وتتطلب تكاتفاً حقيقياً يبدأ من الرقابة وينتهي بالوعي الشعبي. ولتحقيق ذلك، نضع أمام الجهات المعنية بعض المقترحات للحل:
أولاً: دور الجهات الحكومية والرقابية (الردع والمحاسبة):
1. تجريم بيع العملة وإصدار قرار إداري واضح يُصنف “بيع الفكة مقابل عمولة” كجريمة استغلال وربا، وفرض عقوبات مشددة تشمل المصادرة والغرامات المالية الباهظة.
2. تفعيل الرقابة وفتح قنوات للشكاوى عبر روابط إلكترونية، وتسيير فرق تفتيش سرية من مباحث التموين لضبط التجار الذين يرفضون “الفكة” أو يشترطون عمولات على الدفع الإلكتروني.
3. توحيد السعر بفرض تعميم على كافة المحلات والمخابز ونقاط البيع بقبول النقد بكافة أشكاله، وتداول الفكة، وإلزامهم بتطابق السعر الإلكتروني مع السعر النقدي، مع وضع ملصقات توضح ذلك ورقم مخصص للشكاوى.
4. تدوير السيولة وذلك بإلزام مراكز التوزيع الكبرى والمخابز بإعادة “الفكة” للسوق عبر تداولها الطبيعي مع المواطنين، ومنع تخزينها أو تحويلها للسماسرة، ومراقبة ذلك بدقة.
ثانياً: دور مؤسسات المجتمع المدني والوجهاء (الضغط والوعي):
· إطلاق حملات تُعلي قيم النخوة وتُغلبها على الربح، ونشر برامج توعوية في الخيام ومراكز النزوح لتشجيع التكافل، وفضح الممارسات الاستغلالية أخلاقياً واجتماعياً.
· تنظيم لجان تطوعية في الأحياء كمبادرات لتبادل السيولة، تساهم في توزيع “الفكة” المتاحة بين السكان والتجار الملتزمين.
· تعزيز الرقابة المجتمعية من خلال استخدام منصات التواصل الاجتماعي لرصد وتوثيق ممارسات التجار المستغلين ووضعهم في “قوائم سوداء” إلكترونية للردع، ليكونوا عبرة لغيرهم.
ثالثاً: الدور الشعبي (سلاح المقاطعة):
إن المقاطعة الحازمة لها أثر فعال في تهديد مصالح الجشعين؛ لذا يجب على المواطنين مقاطعة أي تاجر يثبت تورطه في استغلال حاجة الناس للفكة أو رفع السعر عند الدفع بالتطبيق، والتوجه فوراً للإبلاغ عنه لدى الجهات الرسمية والتمثيلية ذات العلاقة.
كلمة أخيرة.. من وسط الوجع والألم، نقولها إن من يتاجرون بأوجاع الناس في هذه الظروف العصيبة لا يقل خطرهم عمن يدمر البيوت فوق رؤوس أصحابها. إنها “خيانة للقيم” قبل أن تكون جريمة اقتصادية. يجب أن نضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه استغلال جوع الناس وحاجتهم، ليبقى مجتمعنا متماسكاً وقوياً في وجه كل التحديات.



