عقلية المؤامرة: حين يتحوّل الوهم إلى عائق استراتيجي أمام بناء الدولة والمؤسسات.. بقلم: المحامي علي أبو حبلة

في المجتمعات التي تتعرض لهزّات كبرى، وحروب، وانكسارات سياسية أو عسكرية، لا تظهر نظريات المؤامرة كظاهرة ثقافية هامشية، بل كاستجابة نفسية جمعية تسعى إلى تفسير الصدمة وتخفيف وقعها. غير أن الخطورة الحقيقية تبدأ حين تنتقل هذه النظريات من حيّز التفسير النفسي المؤقت إلى منظومة تفكير دائمة، وإلى أيديولوجيا سياسية معطِّلة للفعل الوطني والمؤسسي.

في علم النفس السياسي، تُعرَّف عقلية المؤامرة بأنها نمط ذهني مغلق يلجأ إلى تفسير الأحداث الكبرى عبر فاعل خفي omnipotent، يمتلك قدرة مطلقة على التحكم في الوقائع. هذا النمط لا ينتج عن فائض وعي، بل عن فقدان السيطرة، وتآكل الثقة، والشعور بالعجز والهزيمة الداخلية. وهو يقدّم إجابات بسيطة لعالم معقّد، لكنه يفعل ذلك على حساب الحقيقة، والعقل، والمسؤولية.

المؤامرة كبديل زائف عن التحليل

توفّر نظرية المؤامرة راحة نفسية آنية؛ فهي تُزيح عبء الفشل عن الذات والمؤسسات، وتُلقيه على “الآخر المتآمر”. غير أن هذه الراحة الزائفة تُنتج آثارًا مدمّرة، لأنها تُلغي منطق التخطيط، وتُفرغ مفهوم المحاسبة من مضمونه، وتستبدل التحليل العلمي بالسرديات الانفعالية.

في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، لا وجود لمفهوم “المؤامرة” بوصفه أداة تفسير علمية. ما يوجد هو تحليل مصالح، وبنى قوة، واستراتيجيات، وتحالفات، وبدائل. وكلما ازداد الباحث أو الفاعل السياسي مهنية وتخصصًا، ابتعد تلقائيًا عن براديغم المؤامرة، واقترب من أدوات الفعل العقلاني.

من التفسير إلى الأيديولوجيا

الإشكالية الأعمق ليست في وجود خطاب مؤامرة، بل في تحوّله إلى ثقافة عامة، بل وإلى أيديولوجيا تبريرية، خاصة في المجتمعات التي عاشت تاريخًا طويلًا من الهزيمة والانكسار. عند هذه النقطة، تصبح المؤامرة:

وسيلة لتبرير الفشل السياسي ، أداة لإسكات النقد والمساءلة ، غطاءً لغياب الرؤية والاستراتيجية

مبررًا لتعطيل الإصلاح المؤسسي

وهكذا، يُستبدل منطق “لماذا أخفقنا؟” بمنطق “من تآمر علينا؟”، ويُغلق باب المراجعة الذاتية، وهو الشرط الأول لأي نهوض وطني.

الأثر البنيوي على بناء المؤسسات

الدولة الحديثة تُبنى على الثقة المتبادلة بين المجتمع والمؤسسات، وعلى الشفافية والمساءلة وسيادة القانون. أما عقلية المؤامرة، فهي تقوّض هذه الأسس جميعًا. إذ تؤدي إلى:

تفكيك الثقة العامة بالمؤسسات ، إضعاف الشرعية السياسية ، شلل القرار الاستراتيجي ، تآكل الكفاءة المهنية لصالح الولاءات

تحويل الفشل من حالة قابلة للإصلاح إلى قدر محتوم

وما لا يُقال غالبًا، أن انتشار خطاب المؤامرة هو مؤشر على أزمة عميقة في العقد الاجتماعي، لا سببها فقط.

بين الفعل الاستعماري وخطاب المؤامرة

من الضروري التمييز بين المشاريع الاستعمارية العلنية، التي تقوم على تخطيط، وقوة، وتحالفات معلنة، وبين تحويل كل حدث تاريخي إلى “مؤامرة غامضة”. فالاحتلال، مثلًا، ليس فعلًا سريًا، بل مشروع استعماري موثّق، خُطط له ونُفّذ بأدوات سياسية وعسكرية وقانونية. اختزاله في خطاب المؤامرة لا يخدم التحرر، بل يُضعف القدرة على مواجهته بوسائل واقعية وفعّالة.

المؤامرة كأداة حكم

تاريخيًا، استخدمت أنظمة سلطوية خطاب المؤامرة لتبرير إخفاقاتها، وإدامة سيطرتها، وتعطيل أي مساءلة داخلية. فحين يُزرع الشك بدل الثقة، والخوف بدل المشاركة، يتحوّل المجتمع إلى كتلة مشلولة تنتظر “ما يُحاك لها”، بدل أن تصنع مستقبلها.

من وهم المؤامرة إلى استراتيجية الفعل

التحرر من عقلية المؤامرة لا يكون بالإنكار أو السخرية، بل عبر:

بناء مؤسسات شفافة وقابلة للمساءلة ، تعزيز التفكير النقدي في التعليم والإعلام ، الاعتراف بالفشل كمدخل للإصلاح لا كوصمة ، الانتقال من منطق ردّ الفعل إلى منطق التخطيط الاستراتيجي ، إعادة الاعتبار لدور الجماهير كقوة فاعلة لا كضحايا دائمين

ونختم بالقول ؟؟؟ إن أخطر ما في عقلية المؤامرة أنها تُنتج وعيًا زائفًا بالعالم، وتمنح إحساسًا كاذبًا بالفهم، مقابل تدمير حقيقي لإرادة الفعل والتغيير. فالأمم لا تُهزم فقط حين تتآمر عليها القوى الكبرى، بل حين تفقد شجاعتها في التفكير، وقدرتها على النقد، وثقتها بذاتها وبمؤسساتها.

وبين وهم المؤامرة ومنهج الفعل العقلاني، يتحدد مصير الدول… ومستقبل المشاريع الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com