ديدوش مراد؛ شارع من السماء (1-2).. مهند طلال الأخرس
تُعتبر كنيسة “القلب المُقدس” المبنية من قبل المهندس الفرنسي لو كوربيزييه بين أعوام 1958-1962، في أعلى شارع ديدوش مراد من أهم الكنائس في العاصمة الجزائرية، لكني لم أراها جميلة؛ رأيت الجمال فيمن ينظرون إليها ويسيرون حولها، هذه الكنيسة “القلب المقدّس” تتميز بشكلها الذي يُشبه مِدخنة كبيرة ومعمارها الوظيفي، لكنها لا تتمتع برؤية خارجية خلاّبة مثل “السّيدة الإفريقية”، المطلّة على غرب وسط المدينة، وحي باب الواد المشهور ولهذه الكنيسة حكاية ورواية سنقصها في مقام آخر لكن من المفيد مبدئيا أن نقول عنها: يخسر كثيرا كل من وطأت أقدامه ارض الجزائر ولم يزر كنيسة السيدة الإفريقية .
ميزة هذه الكنيسة “القلب المقدس” انك تستطيع أن تضعها علامة أو إشارة على النقطة التي تبدأ تجوالك في شارع ديدوش مراد من عندها. هذا الشارع النازل من عند الكنيسة أصبح واحداً من أهم الشوارع التجارية والحيوية في المدينة. جلّ المحالٰ في الشارع تبيع منتجات وألبسة، أو تقدّم خدمات لطبقات معيّنة من المجتمع، لكن والاهم من ذلك كله أن هذا الشارع أصبح جزءا من تاريخ الجزائر وكذلك من حاضرها.
عبر مسافة طويلة وأزمة خانقة حانقة في النهار يمتد شارع ديدوش مراد كما يمتد خيط الكحل في العين، وحده الجمال في ذلك الشارع الحيوي يمتص غضبك ويعيدك سيرتك الأولى، الجمال في ذلك الشارع متعدد المواهب كثير النغمات، سيحتاج كل من يسير في ذلك الشارع إلى كاميرا ليوثق تلك الخطوات وليصور تلك المناظر، وستزداد تلك الخطوات القا وعبقا إذا ترجلت للمسير في ذلك الشارع، سيسرقك الوقت، ستتباطىء خطواتك وتتسع حدقاتك وتطول انفاسك، ستستمع أكثر أن رافقك في تلك الجولة أصحاب معرفة ودراية بهذا الشارع وتاريخه.
في هذا الشارع جمال لا ينقطع، متعدد الأوصاف والأشكال، محلات تجارية على الجانبين بطراز معماري واحد متناغم متناسق فائق الجمال كثير السحر، مقاهي كثيرة ومطاعم أكثر، محلات للألبسة والماركات العالمية روادها انيقون، محلات كثيرة لا تنقطع، وأرصفة عريضة غاية بالنظافة والجمال،
تلك الأرصفة في ذلك الشارع تحسبها منتزهات هبطت من جنان السماء في ساعة صفا لتسترق النظر على الأرض، وعندما علمت أنها في الجزائر بقيت هناك بعد أن طبعت قبلة على جبين الجزائر وقالت أنا كُحل هذه الأرض ودمعتها.
أشجار مزدحمة متلاصقة تشكل وحدة واحدة تبدأ مع خطواتك وتنتهي عند ساحة البريد، تنتهي بصورة أجمل فتنفتح على حديقة أجمل واكبر تزين بطن الجبل تحت قصر الحكومة، وقد يكون من المفيد القول أن هذه الحديقة ما أن تنتهي عند البريد من جهة الباب، حتى تنفتح حديقة أخرى من خلف البريد، لا عجب، ففي الجزائر الجمال يولد من الجمال ويُولّد الجمال كذلك، تلك الحديقة اسمها صوفيا وتطل على البحر.
يمتد شارع ديدوش بين الكنيسة ومبنى “البريد المركزي”، ويمرّ على مبنى الجامعة المركزية وساحة موريس أودان ومن تحتها يمر مترو الأنفاق والذي تصل إليه عبر محطة تافوراء، بالإضافة إلى العديد من المعالم والمحطات التي يزخر بها الشارع ويتزين.
خلال تجوالك في الشارع، ستلاحظ وجود العديد من الأماكن والمعالم المهمة التي تستحق التوقف وأخرى تستوجب الزيارة مثل: مكتبة النجمة الذهبية وهي أقدم مكتبة لبيع وتأجير الكتب في الجزائر وبالقرب منها أيضا أقدم مقهى فلسطيني في الجزائر، واتحاد الكتاب الجزائرين، وحديقة غالان ومتحف باردو والمتحف الوطني للأثار القديمة والفنون الإسلامية، وبالطبع لن تقوم بالانتهاء من شارع ديدوش مراد من دون المرور بأكثر الأماكن شهرة لدى سكان الجزائر، ألا وهي السينما الجزائرية بمبناها المميز والذي يقبع فوقه رسم كبير مزركش باللون الذهبي والأحمر، وليس ببعيد عنها يقبع المقر التاريخي لاقليم حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الجزائر.
في هذا الشارع تختفي الأسرار والحكايات وكذلك التاريخ خلف الستائر والنوافذ وتحت خطواتك، هناك؛ وحدها السماء قادرة على الاستماع لكل تلك الحكايا والشهادة عليها؛ لذا عليك أن تسجل وتدون وتسأل عن كل صغيرة وكبيرة هناك، على خطواتك أن ترافق خطوات أخرى عليمة وخبيرة بذلك الشارع، (بمفهومنا البلدي على تلك الخطوات التي تتسلح بها لسبر غور ذلك الشارع واستنطاق كل مافيه من جمال وحكايا وتاريخ أن تكون حفيت أقدامها وهي تسير فيه)، فهناك ستجد بان التاريخ كثف وجوده كما لم يفعل في مكان آخر.
شارع ديدوش مراد من الشوارع المتميزة في كل شيء، فالجمال هناك لوحة فنية متكاملة، فالابنيته ذات العمارة الرائعة التي تعكس طراز هوسمان سوف تستمتع وأنت تجول عيونك في ارجائها، وستستمع أكثر وأنت تلتقط أجمل الصور التذكارية لك معها، وقد يحدث بعد عديد الصور لك في كل هذه المعالم أن تكتشف أن هناك شيء غريب يخدش جمال الصورة، فتعيد التقاط بعض الصور للشارع وللابنية والأماكن والمعالم، لكن هذه المرة من المؤكد انك ستلتقط الصورة للشارع وحده مع ابنيته واشجاره وأناسه لكن بدون زائر غريب .
في شارع ديدوش ومن خلال تجوالك في المكتبات والمطاعم والكافيهات ومرورك من أمام شتى أنواع المحلات، تتاح للزائر أن يتعرّف على طريقة سير الحياة في العاصمة الجزائر وأوجه الاختلاف بينها وبين سائر المناطق.
في ذلك الشارع عند نهايته بالقرب من ساحة البريد وعند حديقة القصر الحكومية ستجد متاجر المنتجات التقليدية، التي تبيع سلعاً تأتيها من أنحاء البلاد الأربعة، وخصوصاً من الصحراء: ألبسة مصنوعة من الشاش والوبر وحُلي وأدوات تزيين، من هناك يمكن لك أن تشتري تذكارات وتأخذها معك، ليبقى شيئا من الجزائر دائما في جعبتك. في ذلك المكان أيضا أن تركت خلفك حديقة القصر الحكومي والمتاجر التقليدية واستدرت على مهل بإمكانك أن ترى كيف يزداد الجمال جمال، سترى الحمام يحط على مهل، لا يزعجه احد، سترى أناس على الرصيف ينتظرون اشاراتهم الضوئية لقطع الشارع، سترى دار الولاية ومبنى البريد وحديقة صوفيا وكورنيش البحر ومحطة القطار والميناء، من هناك سترى البحر مفتوحا على آخر المدى، من هناك سترى كيف ينسدل الجبل وجذور أشجاره تلامس قاع البحر، من هناك فقط سترى عظمة المكان وسطوة التاريخ.
في هذا الشارع ستبقى خطواتك ذات اثر، ستعود في يوم آخر، وقد كبرت في رأسك الأسئلة؛ من أين جاء هذا الاسم، وما سبب تلك التسمية، كيف لاحتلال في العالم أن يبني كل هذا الجمال وبكل تلك الروعة ويخرج؟! هذا الأثر وتلك الأسئلة لن تغادرك حتى وان غادرت الجزائر. ستذهب أنت وستبقى خطواتك عالقة فيه وستحمل شيئا من جماله في جعبتك، ستحتل ذكرياته حيزا وافرا في حياتك وفي كل حلك وترحالك، ستغلبك الحيرة ويهجم عليك السؤال عن سبب كل هذا الحب للجزائر؟
لن تترد في الإجابة وستجيب سريعا، ليس سبب، بل مجموعة أسباب، أولها وببساطة ان حب الجزائر من الله، فالحب يأتي هكذا بدون سبب ولا يحتاج لبرهان، وثانيها أن هذا الشارع كغيره من الشوارع والأماكن في الجزائر بمجرد ان تسير فيه أو تقف على جنباته يبوح لك سريعا ببعض أسباب هذا الحب، ويبقى الدور عليك أنت كيف تتلقى كل تلك الأسباب وكيف تعبر عن ذلك الحب.