لم أكن لأخمن أبدا أن اللقاء الذي بدأ صدفة بعد حوار بسيط في السوق – والذي مهد الطريق لاحقا لقصة صداقة صادقة تكاد لا تجد لها مثيلا – يمكن أن يعلمني دروسًا كبيرة في الحياة كتلك التي اسقيناها من سماع روايات الأجداد.
السي مسعود بن باكادو والسيد محمد سوكاب، رجلان مغربيان أحدهما يهودي والآخر مسلم. نشأت بينهما علاقة قائمة على الاحترام والثقة، تعكس إلى حد ما قصة الواقع الكلاسيكي المعيش في المملكة المغربية.
ومن بين أحفاد السي محمد، كان جدي، العربي سوكاب (مواليد 1937)، دائمًا ما يغتنم الفرص لمشاركتنا خبرته وحكمه والدروس التي تعلمها في حياته. وفي إحدى الأمسيات، بينما جلسنا نتناول كوب من الشاي بالنعناع، كان من دواعي سروري اكتشاف تفاصيل علاقة خاصة كان قد شهد جميع مراحل تطورها أمام عينيه.
عمل جدي سابقا كإمام بالقرية وكان في نفس الوقت مزارعا محبًا لأرضه. كان يسافر منذ نعومة أظافره مع والده، السي محمد، لأعمال التجارة والتبضع كل يوم أحد في أقرب سوق في مدينة دمنات. هناك بدأت قصته، التي جرت أحداثها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهناك نقف أمام مفترق طرق ثقافي بين السكان الأمازيغ والعرب، والمسلمين واليهود، الذين يعيشون في وادي الأخضر، عند سفوح سلسلة جبال الأطلس الكبير.
تعد
دمنات إحدى المدن المغربية التي تزخر بتاريخ طويل وغني شاهد على حياة اليهود في المنطقة، حيث كان عدد كبير من السكان موجودين هنا قبل أربعة قرون من
تشييد حي الملاح في مراكش. وكان معظم أفراد الجالية أمازيغ يتحدثون تشلحيت في المقام الأول. ظل جو التعايش بين
اليهود والأمازيغ حاضرًا في تناغم وتآخي لمئات السنين، ولكن حلول خمسينيات القرن الماضي عرف أحداثًا بارزة غادر على إثرها العديد من المغاربة اليهود مقرهم.
على فنجان الشاي الثاني، واصل جدي سرد لمحات صغيرة من الحكاية، ولكنها ذات مغزى كبير عن الصداقة التي جمعت والده برجل يهودي مغربي ينحدر من دمنات. مع مرور الوقت، تحولت زيارة الوجه المألوف التي اعتادها لتصبح رحلة منتظمة لزيارة ضيف محبوب لسنوات قادمة.
كان سوق الحد حينها موقعًا رئيسيًا للتبادل الاجتماعي والثقافي، ولا يزال ذلك جزءًا مهمًا في تاريخ دمنات الحديث. ولا يزال سوق الأحد هو المكان المناسب لمن يبحث عن تذوق الزيتون والتين واللوز أو تبضع القطع والتحف الخشبية المحلية والفخار.
أطلق جدي عنان أفكاره فبدأ يروي تفاصيل هذه الذكرى:
“كان السي مسعود يعبر طريق وادي الأخضر ليزور والدي كل ما سنحت له الفرصة. ولا تزال صورته راسخة في ذهني عندما كان يزور المنزل فيجد والدتي وهي تخض الزبدة في عبوة جلد الماعز المعلقة، كانت دائمًا ما تعطيه نصيبًا من الزبدة الطازجة ليأخذها معه إلى دمنات …
أصبح السي مسعود أقرب أصدقاء أبي وأقربهم إلى قلبه. وكان والدي محمد يحرص على عدم السماح بمغادرة ضيفه دون تزويده بالكثير من الخضار والفواكه الموسمية.
ومع أنني كنت مجرد مراهق في ذلك الوقت، إلا أنني أتذكر بوضوح السي مسعود وهو يقوم بتعبئة كيلوغرامات من الخيار داخل سرج بغله المفضل لأن حصاد العام جاد بالخير الوفير، الحمد لله حمدًا كثيرًا”.
في أعماق التقاليد المغربية الحقيقية، ليس هناك فرق بين المحلي و “الآخر” في مفهوم الضيافة والكرم. فهذا الرجل اليهودي من دمنات عند زيارته لقرية ريفية مسلمة لم يلق ترحيبًا حارًا فحسب، بل وتمت أيضًا دعوته لتكرار الزيارة في مناسبات عدة بعد ذلك.