المشاركة والسلوك السياسي في المجتمع الفلسطيني
دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الثالث والرابع: صنع القرار

أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
السلوك المشارك هو فعل عقلاني طوعي يرتبط بهدف أو قيمة ما، ويمكن اعتبار مجموعة قيم نموذجاً مثالياً تشكل بمجموعها شخصية نموذجية للإنسان المشارك بفعالية في النضال الوطني، إذ تعتبر القيم قوة داخلية دافعة للسلوك، تجسيد القيم على شكل سلوك مادي ( فعل) هو الذي يؤكد أهميته وارتباطه بالمشاركة الفعلية المجدية.
السلوك من أهم محددات المشاركة، لأن المشاركة ما هي إلا السلوك الفردي في ارتباطه مع قضايا الجماعة، فعلى مستوى التحليل الفردي، يقتضي تناول أي سلوك الأخذ بالاعتبار بقرارين:
– قرار القيام بالفعل.
– قرار عدم القيام بالفعل.
في الأول، يقرر أيضاً وجهة الفعل، ومجال المشاركة، وتكون قرارات الفعل مصحوبة بقرار ثالث حول شدة الفعل، استمرارية الفعل، ثورية الفعل، فربما تكون الفعالية متوسطة أو قوية، وربما تكون حالة وحيدة أو متكررة.
ميزت دراسة ميدانية -جرت ما بين ( تشرين 1988- آذار 1989) بعنوان «الانتفاضة والطفل الفلسطيني» شملت 720 طفلاً تتراوح أعمارهم ما بين (9-16 سنة)، أعد لها سهى هندية وفريال خليفة- بين حدين من الانخراط في المواجهات مع جيش الاحتلال بدرجات متفاوتة تتراوح ما بين بسيطة وعنيفة، المواجهة البسيطة تلك التي تميزت بالمشاركة في مسيرة أو مظاهرة لمرة واحدة أو مرتين، ونتج عنها استنشاق غاز، أما المشاركة العنيفة هي حالة الانخراط بشكل مستمر أو متعدد في مواجهة الجيش، كما تشمل حالات المواجهة مع الجيش سواء كانت مظاهرة أم مسيرة، والتي نتج عنها إما الضرب أو الاعتقال أو الإصابة بالرصاص، وهذا ينطبق على حالات الضرب التي حصلت داخل بيوت هؤلاء الأطفال دون نزولهم إلى الشارع للمواجهة، في هذه الحالة الأخيرة نتساءل عن قرار المشاركة، وهذا السؤال يصح أيضاً في حالة الإصابة بالشارع بشكل عرضي أو بالمصادفة، عدد لابأس بها من الإصابات وقعت في الشارع ولم تكن حالات مشاركة في أعمال الانتفاضة، تواجدوا في الشارع بالمصادفة، ولم يكن لديهم القرار في الانخراط في المواجهات، وهذا يدل على نوايا القتل لدى جنود الاحتلال الذين يوجهون سلاحهم ضد كل ما هو فلسطيني سواء واجههم أم لم يواجههم، ومع كل الاحترام والتقدير للإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي استشهدت برصاص جنود الاحتلال، لم تكن في مواجهة مباشرة مع هؤلاء الجنود المجرمين، ولا أنفي أن القيام بواجبها الإعلامي له دور وطني في فضح ممارسات الاحتلال العدوانية.
اتخاذ القرار خطوة منطقية في المشاركة عن سابق إصرار قبل محاولة التنفيذ الفعلي، أغلبية المشاركين يكون لهم مثل هذا القرار، صنع القرارات تحتاج إلى امتلاك المهارة التي تعبر عن شخصية فردية قوية للشاب، لأنها تطوّر القدرة الإبداعية، كما تقوي من مشاعر الاستقلالية لديهم، إذ تتضمن عملية اتخاذ القرارات أيضاً القدرة على التخطيط المستقبلي، ومعالجة إمكانات بديلة متصورة في الذهن، مستفيداً من خبرات الماضي، مضيفاً إليها عناصر جديدة متخيلة، يملك أغلب المراهقين من الفئة العمرية (14-16 سنة)، تصوراً عن مستقبل وطنهم، يستمدونه من المعلم في المدرسة، أو من الأب في الأسرة، وإذا سؤل أحدهم عن مستقبله الشخصي نجد أن كثيراً منها صاغها الآباء، دون أن يكون للناشئ رأي فيها.
من المؤكد أن الطفل لا يستطيع توجيه سلوكه بالصورة الصحيحة بل يجب أن تفرض عليه تحديدات وقواعد معينة، كما لا بد من إعطائه بعض الحرية في اتخاذ القرارات في قضايا تخصه، مثل اختيار ملابسه، حتى ننمي لديه مفهوم تقرير المصير، لتعويده على صياغة قراراته من تلقاء نفسه، إن بعض السلطة ضروري على الأطفال والمراهقين، وخاصة إذا لم يثبتوا أنهم جديرون بمنحهم الاستقلالية، لكن أنصار السلطة الأبوية، يرون أن منح الاستقلالية للمراهق يؤدي إلى الفوضى، ولو سلمنا بذلك، وقارنّا بين فوضى محدودة، مع الخضوع المطلق للسلطة، وتحويل الشاب إلى أداة لتنفيذ الأوامر، أي شباب مقولب لا يعرف روح القرار الذاتي أو معنى الاختيار، الذي هو أساس الحياة الخلقية عند الإنسان، سوف نجد أن الفوضى المحدودة هذه ضرورة لوضع الشاب في تجارب تنمي شخصيته وإن زل مرة وأصاب في أخرى.
في هذا السياق يلح السؤال: هل في منظماتنا السياسية سلطة أبوية؟. هل حقيقي أن تصدر حالات شابة وشغلهم لمراتب تنظيمية أعلى يعني إسهامهم في صناعة القرارات السياسية والتنظيمية؟. هل القرار يصنع مسبقاً في المطابخ السياسية ثم في المؤتمرات يطلب الموافقة، فترتفع الأيادي كتحصيل حاصل؟.
طالما شكلت العائلة الأساس الرئيسي في النظام الأبوي، لكن ما ينذر بنهاية النظام الأبوي تراجع شكل العائلة الممتدة، وظهور شكل العائلة النواة الصغيرة، وبقدر ما تنمو الاستقلالية الاقتصادية للأبناء، تتقلص السلطة الأبوية، إذ أن المال والتحكم بطريقة صرفه أحد أهم أسس السلطة الأبوية سواء في الأسرة أم في المجتمع، فيمنع المال عن المعارض أو يشح، بينما يغدق بوفرة على المؤيد لها، وهذا يلاحظ في صرف مخصصات الفصائل المنضوية تحت إطار «م.ت.ف.» من الصندوق القومي الفلسطيني.
في العائلة الممتدة ونتيجة لسيادة السلطة الأبوية، التي تعنى بالضبط الاجتماعي بالطاعة حيناً وبالإكراه حيناً، يصنع الآباء القرارات في كل المسائل التي تتعلق بأفراد أسرتهم، ولا سيما الإناث منهم، حيث قضية” المرأة هي قضية مركزية في المجتمعات العربية الأبوية، وقد تكون الطاعة نتيجة الخوف أكثر مما هي نتيجة الحب والاحترام. وذلك لا يؤثر على الروابط الأسرية في العائلة العربية التي تمتاز بالوحدة والتماسك بين أعضائها، وخاصة عند التعرض للازمات والتهديدات، والأسرة الفلسطينية في الأزمات التي يخلقها الاحتلال وسياساته القمعية تواجه الظروف الصعبة متماسكة متعاونة.
رغم هذه الظروف، ورغم التطورات الحضارية التي تلح على بناء الشخصية المستقلة القادرة على صوغ قراراتها الخاصة بنفسها، ما يزال الأب التقليدي متمسكاً بدوره السلطوي فعندما يكون الفرد إيجابياً في سلوكه السياسي يستطيع أن يقرر نوع مشاركته السياسية، أو حتى في حال قرر عدم المشاركة في حدث سياسي ما، تكون اختياراته لصيقة بمواقفه الشخصية، بعض المواقف التي ترتبط بقرارات العائلة أدت إلى تصنيف عائلة على أنها فتحاوية وعائلة أخرى أنها حمساوية… إلخ، فهل يؤثر انتساب الأب إلى تنظيم سياسي على قرار الابن على الانتساب إلى ذات التنظيم بحكم الطاعة لا القناعة الشخصية؟. هل هناك انتساب جماعي عائلي يشكل تكتلاً يرأسه كبير العائلة؟.
لا يستغرب أحد امتداد السلطة الأبوية إلى المنظمات السياسية الفلسطينية بل إلى أعلى الهيئات والمجالس الفلسطينية، التفرد بالسلطة واتخاذ القرار بعيداً عن الشكل الديمقراطي لصياغة القرارات هو نموذج للسلطة الأبوية، والسلطة الأبوية المسيطرة على تنفيذ القرارات تتجاهل أو تعطل قرارات وطنية اتخذت بالشكل الديمقراطي من قبل هيئة تمثيلية، أو مندوب للحوار السياسي يفترض أنه يمتلك صلاحية معينة لعقد اتفاق مع آخرين، يوبخ من قبل السلطة الأبوية التي تنسخ في لحظة واحدة كل ما اتفق عليه الإطار الوطني المتحاور، هذا ما حصل في الحوار الفلسطيني قبل انعقاد القمة العربية الـ31 في الجزائر 01/11/2022.
تناول د. هشام الشرابي المجتمع الأبوي في العالم العربي بالتحليل والنقد، وقارنه بالمجتمعات الأبوية الأخرى في العالم وتوصل إلى أنه يختص بصفات فريدة، بحيث يمكن تعريفه كنمط عربي إسلامي، الأصولية الإسلامية هي الوريث الشرعي للنظام الأبوي المستحدث، وميز بين نمطين من النظام الأبوي: النظام الأبوي التقليدي أو القديم وهو النظام الذي رافق المرحلة الإقطاعية في أوروبا وما يماثلها في آسيا وإفريقيا، والنظام الأبوي الحديث أو “المستحدث”، وهو النظام الذي نشأ في العالم العربي ودول أخرى من العالم الثالث، إثر الاحتكاك بالحداثة الأوروبية بأفكارها وقيمها، التي اجتاح العالم بأسره، إلا أن حركة النهضة العربية قادت تحديثاً مشوّهاً وناقصاً في ظل هيمنة الغرب الاستعماري، هو خليط غير متجانس من القديم والحديث، والتراثي والمعاصر، يدّعي الأصالة والمعاصرة معاً، في حين أنه يبتعد عن الحداثة الصحيحة بعده عن الأصالة الحقيقية.
وحسب شرابي لم تستطع حركة النهضة العربية أن تدخل في الحداثة الحقيقية، ولا أن تتجاوز النظام الأبوي العربي، فأنتجت الأبوية المشرقية طبقة من المثقفين المزيّفين، والمشبعين بالفكر الأبوي المستحدّث، فرغم انهيار نمط العلاقات الإقطاعية العشائرية التي تقوم عليها السلطة الأبوية، إلا أن للقيم استقلالية نسبية سمحت لها بالاستمرار إلى وقتنا الحالي، ومازال مجتمعنا يحترم إلى حد التقديس آراء الكبار، ولو كان الشباب أكثر علماً وثقافة، وأصوب رأياً، ومازال القول الشعبي ( أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة) سائداً، وبعد النكبة وجدت طبقة عمالية لاجئة أصولها قروية ذات عقلية فلاحية ريفية لا تسمح للشباب بالمبادرة الشخصية، فالكبار يعتبرون الشبان ذوي خبرة حياتية ناقصة لذلك يحتاجون إلى من يصوغ القرارات بدلاً عنهم، وفي أحسن الأحوال إرشادهم ومساعدتهم في صنع القرار، أما طلب المشورة فهو أمر صحي، إذا كان يعني ترك الشاب يتخذ القرار لوحده بعد توضيح الأمور.
إن الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة ثورية حيوية عليها أن تفسح المجال أمام عملية نقدية وتفاعل حرّ ونقاش مستمر بين جميع الفئات والأحزاب والجماعات، ومختلف مؤسسات المجتمع المدني، لبحث قضايا السلطة الأبوية في الأسرة وفي المجتمع، ففي ظروفنا الراهنة تغدو أهمية وأولوية تكوين شخصية الشباب بصورة صحيحة لإطلاق طاقاتهم الخلاقة في التغيير وصنع المستقبل، فلا بد من تعبئتهم بالصورة المثلى، بالشباب السوي المتكامل الشخصية نصل إلى مشاركة صحيحة من خلال تنمية قدراتهم وتطوير مهاراتهم في التخطيط المستقبلي وصنع القرارات.
المشاركة والسلوك السياسي في المجتمع الفلسطيني
دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الرابع: الخطاب الثقافي والسياسي
أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
الخطاب السياسي مصدر من مصادر المعرفة، يهدف إلى الإقناع والتأثير على الأفكار والتصورات، وبالتالي يؤثر على السلوك السياسي، من البديهي القول: أن السلوك السياسي المشارك يمتلك ثقافة سياسية وقناعة بأهداف مشاركته، والثقافة السياسية المحدودة تؤثر سلباً على مستوى مشاركته السياسية، لأنها ضرورية لمعرفة حقوق الانسان (المواطن) وواجباته نحو البلد أو الوطن الذي يعيش فيه، ويفترض بالثقافة الشخصية أنها تتمتع بثبات نسبي، وخاصة في جوهرها، إذ أن الفرد يطور ويوسع نطاق معرفته، وفي حالات خاصة من الممكن أن تتغير كلياً، كأن تكون ثقافة الفرد علمانية تتحول إلى دينية والعكس ممكن.
ترتبط الثقافة السياسية باتجاهات وميول وقناعات تشكل بواعث للسلوك، تحدد نوعه وشدته تجاه القضايا السياسية المختلفة، تُعرّف الثقافة السياسية بأنها تلك الأنماط من المعارف التي ترتبط بالموضوعات السياسية فهي جزء من الثقافة العامة، وفي الحالة الفلسطينية يمكن تحديد أهم هذه الموضوعات رغم تنوعها وتعددها، أهمها ( تاريخ فلسطين وتاريخ القضية الوطنية، تاريخ الحركة الصهيونية، الاستعمار البريطاني لفلسطين دوره ومصالحه، تطورات الأحداث، الطبقات الاجتماعية ودورها، الأحزاب السياسية، مكونات النظام السياسي، الحكومات أو المؤسسات السياسية أو الزعامات أو الشخصيات الوطنية المتعاقبة، قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، الهجرات والاستيطان اليهودي في فلسطين…). إن الثقافة تشمل معرفة رموز الأمة، وتقاليدها، وتاريخها، والثقافة السائدة والعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد المجتمع، عندما يفكر الإنسان في هذه المعرفة، يتشكل الوعي الوطني من الإدراك الصحيح للهوية القومية، فالوعي هو حالة من إدراك الفكر، أو تمثل للعالم الخارجي في الذهن، كذلك يتشكل الوعي السياسي عندما يفكر الإنسان بالقضايا السياسية، والوعي هو ما يميز الإنسان وسلوكه، فالحياة الإنسانية حرية وإرادة ومسؤولية، حيث يختار الإنسان السوي سلوكه بكامل الوعي إن لم يكن كل سلوك على الإطلاق فأغلبية نشاطاته.
كان لدراسة، عنوانها ( الأطفال الفلسطينيون جيل التحرير) لباسم سرحان، هدفان: الأول: دراسة مدى الوعي الوطني والشخصي المميز للأطفال الفلسطينيين الذين ولدوا خارج فلسطين، والثاني: معرفة درجة ارتباط هؤلاء الأطفال بوطنهم الأم، توصلت الدراسة إلى أن الأطفال الفلسطينيين يمتلكون درجة عالية من الوعي الوطني فهم يعرفون من أين أتوا؟. ومن هم أعداؤهم؟. وما هي أسباب وضعهم الحالي؟. الأطفال الفلسطينيون يعرّفون أنفسهم كفلسطينيين فقط. الأطفال الفلسطينيون يرفضون التوطين أو التعويض ويصرون على التحرير. فلسطين هي المكان الأوحد الذي يشعر الأطفال الفلسطينيون بأنه وطنهم الحقيقي. يؤمن كل الأطفال الفلسطينيين أن فلسطين عربية. ولاء الأطفال الفلسطينيين الأول هو لوطنهم. يؤمن الأطفال الفلسطينيون أن تحرير فلسطين لن يتم إلا بكفاح الفلسطينيين المسلح.
ترتبط الثقافة الشعبية بعلاقة متينة بالثقافة السياسية والسلوك السياسي، فهي انعكاس لنمط الحياة الفلسطينية ومسارها التاريخي، جذورها وسماتها الأساسية الأبرز تتمثل في نمط الحياة الفلاحية المرتبطة بالأرض، هذه الثقافة تربط المواطن وتوحده مع مجتمعه من خلال قيم الأرض.
كان الاتصال الشخصي القناة الرئيسية الأساسية التي حفظت التراث الفلسطيني ونقله من جيل إلى جيل، ومنذ العام 1948 ونتيجة للنكبة وتشتيت الشعب الفلسطيني ازداد الاهتمام بالتراث وتدوينه عبر دراسات وأبحاث جمعته في كتب، شمل الجمع كل جوانبه من أساطير وخرافات، وحكايات وسوالف، وأشعار وزجل، وعتابا وأغان شعبية، ودبكات ورقصات، وأمثال وأقوال انتقلت في السابق عبر الأجيال بطريقة الاتصال الشخصي المباشرة والشفوي.
تمتاز الثقافة الشعبية بأنها أسهل انتشاراً وأيسر نوالاً لكن يصعب حصرها، لا تحتاج إلى مستوى علمي متقدم لفهمها واكتسابها، مما يجعلها ملائمة لعامة الناس، الاهتمام بهذا اللون ممتع، لكن التعمق به صعب، يتطلب الغوص في التاريخ دون الوصول إلى معلومات دقيقة عن أصولها ومصدرها وحكايتها وقائلها، تتضمن الحكم والأمثال الشعبية تناقضات واضحة، منها ما يدعو إلى التجاهل واللامبالاة ومنها ما يدعو للاهتمام والمشاركة، فهي تعكس طبيعة الحياة بغناها وتنوعها، تبرز أهمية الأمثال والأقوال في علاقة السلوك بالثقافة الشعبية، فتبدو آثارها ومضامينها متناقضة، منها الإيجابي، ومنها السلبي، كـ( الهريبة تلتي المراجل، ألف عين تبكي وعين أمي ما تبكي..)، وهناك أمثال تدعو للحماسة النضالية ومواجهة التحديات وامتزجت هذه الأمثال بأقوال وطنية لزعماء عرب دخلت في المفهوم الشعبي، ليشكل خلاصة تجربة للأمة كلها، مثل القول الشهير للرئيس جمال عبد الناصر: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وعبارة لياسر عرفات كرر ترديدها: يا جبل ما يهز ريح، وقول الشهيد سعد صايل : نموت لتحيا فلسطين، وأقوال لا يعرف قائلها: فلسطين عروس مهرها الدم.
تنتقل الثقافة الشعبية عبر الأجيال من خلال الاتصال الشخصي والعلاقات الاجتماعية المباشرة، وخاصة أحاديث وحكايات كبار السن، وهؤلاء من جيل النكبة يقلّون، يموتون لكن الصغار لا ينسون، وتتعاقب الأجيال وثمة من ينقل التراث بالطرق التقليدية، وتنتقل معه أخبار نكبة فلسطين ومآسيها، والتجارب الشخصية، بخطاب لا يخلو مَن جاذبية وتشويق، وعواطف تتضمن مشاعر جياشة وصادقة، وتروى الأحداث وفق الآراء الشخصية، فتتباين الروايات بما يخص الثورات الفلسطينية وحرب العام 1948، ولكنها كلها تؤكد بطولة الثوار وتضحياتهم، وشجاعة الأهالي، ومقاومتهم للعصابات الصهيونية المجرمة، مما يجعل لهذه المصادر غير الرسمية للمعلومات أهميتها وتأثيرها، بسبب الرباط العاطفي بين الأجيال، هذا التأثير لا يوجد في نفس الدرجة من القوة في المطالعة وقراءة الثقافة الشعبية من مصادرها الحديثة المدونة والمسجلة، بعد أن استدعى الاهتمام بالثقافة الشعبية كعنصر من عناصر الهوية الوطنية تدوين مفرداتها في كتب ومنشورات أو تسجيلها كصوتيات أو مرئيات، فالشبان واليافعون يجدون متعة في الاستماع إلى هذه الأحاديث، وقد يعترض الشبان على بعض آراء الأجداد والجدات، أو يرفضونها حسب درجة الوعي، ولا تلقى كل وجهات النظر القبول في أسباب النكبة والنكسة، ونجاح المشروع الصهيوني مقابل تعثر المشروع التحرري الفلسطيني، ليس من منطلق صراع الأجيال أو الرفض لإثبات الذات، أو رفض القديم لأنه قديم ورغبة مجردة في التجديد، بل عن منطق الوعي والثقافة والنقد الموضوعي لما هو سلبي في الثقافة الشعبية، ذلك أن الثقافة الشعبية ليست دائماً إيجابية، إذ أن التربية التقليدية حفلت بالكثير من الشوائب عن حكايات الجن والعفاريت التي تكرس العقلية السحرية والاعتقاد بالشعوذة، كما حفلت بقيم عشائرية تقليدية سلبية.
الثقافة الشعبية تعكس مصالح وتجارب قطاعات وفئات اجتماعية مختلفة وبأشكال متباينة، وتعكس بالتالي وعي متباين لمصالح شرائح عديدة، أحياناً تتجه نحو الخنوع وتحاشي غضب السلطان، وأحياناً في تمرد يمثل الشعب أو يرمز له، وقد لا تخلو أحاديث الكبار من تلميح إلى اللامبالاة والتسليم بالأمر الواقع، أو أن الجيل الجديد لا دخل له، أو أن للبيت رباً يحميه، ونفترض على العموم أن الجوانب الايجابية هي الأغلب والأوضح، يواجه الشباب المتحمس هذا “أن أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل”، أما الأحاديث عن جمال قرى ومدن فلسطين فلاقت استحسان الشبان، الإلقاء العاطفي والاستماع المتشوق نمّى مشاعر الانتماء وتعلق الشبان الفلسطينيون من اللاجئين على العموم ببيوت الأجداد وبلداتهم، والرغبة الأكيدة بالعودة إليها وهو ما يدهش الباحثين في أمر الحنين لمناطق لم يعش فيها الشبان الذين عاشوا في مخيمات الشتات، ولم يروها، أو الأدق رأوها في عيون وقصص الآباء والأجداد، هذا الإحساس بالانتماء للوطن هو أساس الشعور بالواجب الوطني، الذي يلزم الفرد أو يدفعه للمشاركة الفاعلة في القضايا الحيوية لشعبه.
ما قيل وحكي من معلومات عن القرية أو المدينة في فلسطين، قيل أيضاً في التعريف بنواحي الحياة الاجتماعية بكل تفاعلاتها وصخبها، ولأحاديث الآباء والأجداد دور هام في نقل صورة كافية عنها وخلق الحافز لدى الكثير من الشبان الذين سعوا إلى المتابعة في التعرف على المزيد من المعلومات في هذا المجال، من موضع الاهتمام ومن موقع الجاذبية للتراث لاسيما الأغاني الشعبية الفلسطينية الجميلة، التي أفادت في التعرف على الجوانب الاجتماعية مثل الزواج والحب، والجوانب الاقتصادية مثل الحصاد والصيد وغيرها.
ظهر في عدد من البحوث فرض عام يربط المشاركة السياسية بتلقي الفرد تحريض الخطاب السياسي، سواء توجه الخطاب إلى نشر الثقافة الرسمية، أم الثقافة غير الرسمية، الثقافة السائدة لدى أفراد المجتمع، أم ثقافة فرعية لجماعة ما، الخطاب السياسي الفلسطيني في جوهره هو خطاب سياسي مقاوم لا يتعلق فقط بالخبر بل أيضاً بتحليله وقد يكون خطاباً حماسياً تحريضاً أو يعرض وجهة نظر إحدى القوى السياسية المختلفة في قضية من القضايا الوطنية، يقول د. ناصر اللحام: «في الخطاب السياسي الفلسطيني ثلاثة عيوب تقتل الإرادة وتفشل العمل، الأول انه منفصل عن الواقع، والمعارض منه والموالي على حد سواء يقول عكس ما يفعل ويفعل عكس ما يقول، والعيب الثاني: عدم الاتفاق على تحديد معسكر الأصدقاء، ولا معسكر الأعداء، وكل حزب أصبح له حلفاء ظاهرين ومخفيين، والعيب الثالث هو تحطم المؤسسة العامة، و”بالتالي يغيب” الخطاب السياسي بما هو خطة عمل متفق عليها، و” برنامج أولويات تصوغها المؤسسة الوطنية” لمواجهة الأحوال، والأهوال القادمة بتحضير كاف يضمن تخطي العقبات والانتصار على الظروف الصعبة» .
أكدت النتائج أن تلقي الفرد لتحريض أكثر حول السياسة سيوجد إمكانية أعظم وأكثر عمقاً للمشاركة، ذلك لا يعني أن استقبال التحريض وما يرمي له الخطاب السياسي سيؤدي حتماً للمشاركة السياسية، بل إن الأشخاص المنجذبين إيجابياً للسياسة من المتوقع أن يتقبلوا تحريضاً أكثر عن السياسة، ووجدت دراسة أخرى أن التعرض للتحريض حول السياسة سيزيد كمية المعرفة السياسية، وستزيد من تثبيت الارتباط بالحزب أو المرشحين وتسهم في اتخاذ الفرد قرارات حاسمة.
الأشخاص يتلقون التحريض ومعاني ومضامين الخطاب السياسي، ويبحثون عنه لأغراض عديدة: ليشبعوا فضولهم للمعرفة، ليساهموا في حل المشكلات، ليشبعوا إحساسهم بالواجب، لاعتقادهم أن المواطن الجيد يجب أن يكون مطلعاً.
أجابت دراسات أيضاً عن تساؤل: لماذا يتجنب الأشخاص التحريض السياسي؟. ترى أن الحاجز الإدراكي لدى الأشخاص الذين ينقصهم التعليم والدراية حول السياسة، وكذلك الصغار في السن يتجنبون التحريض كطريقة لحماية شخصيتهم من مضمون لا يفهمونه ولا يستوعبونه، أما الأشخاص المشغولون الذين يدعون أن لا وقت إضافي لديهم للسياسة، يبتعدون عن التحريض السياسي بادعاء أن السياسة لا تأتي ضمن اهتماماتهم.
أشارت دراسات سابقة إلى عدم وجود علاقة ارتباطية قوية بين متغير المعرفة السياسية، والفعالية السياسية، فالاستماع إلى الأخبار وقراءة الصحف والمجلات، والاهتمام بمصادر المعلومات الأخرى يبقى في دائرة الاهتمام المعرفي النظري، ويتجاوزه أحياناً إلى الالتزام العملي إذا أصبحت المعلومات مكون من مكونات فكره العقائدي.
وحدة المعرفي والسياسي تبدو في أن الممارسة السياسية تقوم على معرفة موضوعية، بشكل تكون فيه هذه الممارسة ذاتها شكلاً من أشكال المعرفة، فالمواطن الذي يهتم بالسياسة ويشارك في الشؤون السياسية، تدفعه ضرورة الممارسة والمناقشة إلى قراءة المنشورات ومتابعة الأخبار والمقالات والتعليقات السياسية، من الطبيعي أن يكون لدى المشارك السياسي معرفة بالمسائل السياسية، وخاصة لدى الشباب الفلسطيني، الوضع العام للفلسطينيين أوجد بيئة اهتمام سياسي في كل الأوساط، جعل المجتمع الفلسطيني مجتمعاً مسيساً، لا يقتصر على المعرفة النظرية بل باستطالة عملية واضحة، نتيجة الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه، فعلى مستوى المعرفة النظرية، يبرز الاهتمام بمتابعة الأحداث المحلية الفلسطينية والعربية والعالمية، باعتبار أن أي حدث يؤثر على مصير الشعب الفلسطيني، وبالتالي على المصير الشخصي، فالسياسة شيء هام في حياة الإنسان الفلسطيني، وقد تكون هناك انقطاعات في المتابعة تبرره الظروف الاقتصادية والاجتماعية، إنما لا يمكن بالعموم القول هناك عزلة وابتعاد كامل، خاصة في زمن الخبر المباشر وتوافر هذه الخدمة على أجهزة الاتصال الحديثة والنشاط الملحوظ على مواقع التواصل.
الاهتمام بمطالعة موضوعات القضية الفلسطينية لا يدل فقط غلى رغبة بتحصيل المعرفة وخزن المعلومات في الذاكرة، بمقدار ما يعبر عن اهتمام خاص بنوع محدد من المعرفة يؤكد الاهتمام بالقضية الوطنية الفلسطينية وبعديها العربي والدولي، وهذا الاهتمام لا ينحصر في المعلومة السياسية بل أيضاً يمتد من قراءة الأدب الفلسطيني، إلى متابعة الفنون الفلسطينية بأشكالها وتنوعاتها وبالأخص ما يتعلق بتراث الآباء والأجداد.