رسالة إلى عُميان الواقع الافتراضي

فراس حج محمد| فلسطين

تابعتُ حملة التنمر الإلكتروني التي انطلقت للهجوم على أحد كتب المناهج الأردنية، ويظهر في أحد صفحاتها مربعاً تعريفيا بالفنانة سميرة توفيق. جاء التعريف في سياق الحديث عن الأغنية التراثية الأردنية في الدرس الثامن من الوحدة الثانية “التربية الموسيقية” من كتاب “التربية الفنية والموسيقية والمسرحية”. (الطبعة الأولى التجريبية، 2024، ص  66). وبوتيرة أخف انتبهت إلى ما كتبه مدونون تونسيون انتقدوا إدخال نوال السعدواي في أحد كتب المناهج عندهم، وطال هذا التنمر توهم أن الفنانة المصرية إلهام شاهين تتمنى أن تدرّس في الكتب المدرسية، ما نفته صراحة إذ ادعوا أنها قالت: “أتمنى تاريخي يذكر في كتاب مدرسي”. وادعى أحد المدونين أن الفنانة إلهام شاهين طلبت من مجددي المناهج في الأردن إضافة اسمها وتاريخها أسوة بغيرها من الفنانين والفنانات الأحياء منهم والأموات.

رافق ذلك ربط المسألة بفكرة هجوم القوى الاستعمارية على المناهج العربية ومحاولة تغييرها، كما هو الحال مع مناهج السلطة الفلسطينية التي طالبت دول أوروبية متعددة في سياق الحرب على غزة (2023/ 2024)، ومن ضمن إصلاحات نظام السلطة الفلسطينية-  طالبت السلطة بضرورة إجراء تعديلات على هذه المناهج، بما يتساوق ويتصل بدعوة الاحتلال بضرورة تغيير مناهج غزة لتكون أكثر اعتدالا حتى لا ينتج عن هذا المنهاج مقاومين يناضلون ضد الاستعمار والاحتلال، وما ينتج عن هذا الاحتلال من مظاهر القسوة والعنف متمثلة بالقتل والتعذيب والسجن والنفي.

هذه الأرضية والذهنية المستفزة- بحق وبباطل كذلك- خلقت أجواء من التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي شارك في صنعها مثقفون وأساتذة ومتعلمون خلال مناقشتهم صفحة الكتاب المدرسي الأردني، حيث سيكون التركيز في الحديث عنه لعدة اعتبارات سأشير إليها في ثنايا هذه المقالة.

استهجن هؤلاء الغيورون على الأمة وثقافتها وأجيالها هذا التوظيف، وهذا الاستعمال التربوي لفنانة أردنية، ولو عاد أحدهم إلى الدرس نفسه لوجد أنه من الطبيعي استدعاء نموذج من الفن الأردني التراثي، إن لم تكن سميرة توفيق، فسيكون غيرها ممن أبدعوا في أداء الأغنية الشعبية الأردنية، سيكون بدلا منها توفيق النمري أو سلوى أو جميل العاص مثلا، وربما إسماعيل خضر أو عبده موسى المشهور بالعزف على الربابة أو ميسون صنّاع، أو متعب الصقار أو عمر العبداللات من الجيل الجديد، أو غيرهم، فكل هؤلاء فنانون أبدعوا في أداء أغاني التراث الأردني، ولا بد من أن يذكر المؤلفون هذا الجانب الحيّ والحيوي للأغنية التراثية، فبناء الوحدات في الكتاب المخصص لهذا الشأن التعليمي لمن يطلع عليه، يدرك أن الدروس مبنية على المعلومات العلمية النظرية ثم ربطها مع واقع الحياة الأردنية، بوصفها بيئة الطالب التي يتعلم فيها، ويتعلم من أجلها، فأين الخلل في هذا لست أدري؟ على الرغم من أن هذا التعريف وهذا التوظيف جاء على هامش الدرس، كمعلومات إثرائية للطالب بوصف أغاني سميرة توفيق مثالا واقعيا على الأغنية التراثية، فلم تكن محل نقاش، وإنما انتقل الكتاب بعدها مباشرة إلى التقويم “أقيّم تعلمّي”.

ليس صحيحا ألبتة ما ادّعاه بعض هؤلاء المتنمرين أن المناهج تطرح هذه الشخصيات لتكون محل قدوة، كما كتب أحدهم مثلا في انتقاده حضور نوال السعداوي في المنهاج التونسي وسميرة توفيق في المنهاج الأردني، فهل مثلا عندما يُطرح نص لأبي العلاء المعري سيكون قدوة في أفكاره الإلحادية؟ والأمر نفسه يقال عن أبي الطيب المتنبي النرجسي والمنافق سياسيا، وعن أبي نواس المتهتك أخلاقياً، وعمر بن أبي ربيعة (النسونجي) الذي كان يتابع النساء ويرتحل في طلبهنّ في موسم الحج ليقول فيهن شعرا، وغيرهم الكثير، هل عندما يُطرح هؤلاء الفنانون أو تلك الشخصيات في المناهج والمقررات يكون الهدف من ذلك تنصيبهم قدوات اجتماعية أو فنية؟ إن من يطرح هذه الفكرة لا يفهم ما معنى محتوى تعليمي ولا أهدافه، ولا يعرف كيف تصنع القدوة الحسنة أو السيئة.

إن من ساهموا في هذا التنمر واللمز والهمز من العرب، فلسطينيين وغير فلسطينيين، ضد معلومات هذه الصفحة من كتاب المنهاج الأردني الذي يستدعيها منطقيا وتركيبيا وتعليميا، لم يكونوا اطلعوا- في الغالب- على الكتاب المقرر، ولا حتى اسمه وبعض من مضمونه المتعلق بالتربية الموسيقية. وإنما “مجنون” رمى حجر في بئر، فلحقه آلاف من المجانين رموا وراءه آلاف الحجارة. لم يفكر أحدهم ما السبب وراء ذلك؟ وأين؟ وما السياق العام؟ وإنما مجرد رأوا صورة سميرة توفيق والتعريف بها وببعض أغانيها، حتى أشهروا ألسنتهم الحادة ضدها، وضد هذا التوظيف. وضد المناهج، وحضرت نظريات المؤامرة وتتفيه الأجيال. “وانظروا إلى أين صرنا” و”ربنا يجيرنا من القادم”، وغير ذلك كثير من العبارات التي تصور الأمر على أنه كارثة وطنية وقومية وعقدية، عدا التربوية والتعليمية.

على أية حال، إنها ليست أول مرة يطيش الناس فيها على شبر مياه التشويه ضد كتاب أو كاتب، إنما يكفي أن يحرّض أحدهم أو إحداهنّ على صفحة ما أو فكرة أو أسلوب أو صورة في كتاب، ليندفع الآخرون بالرجم والسباب، وتنتقل الصورة إلى آخرون كما تنتقل فيروسات عدوى الرشح والكورونا، وهكذا حتى يشكلون جوقة من التفاهة، يمارس كل واحد من هؤلاء شغفه في حب الانتقاص من جهود الآخرين وتتفيهها.

إن للفن موقعه المهم في الحركة الثقافية المجتمعية، فما زلنا إلى الآن ندرس عن المغنين العرب القدماء في العصر العباسي وفي بيئة الأندلس، ونمجّد زرياباً، ومعبداً، ودنانير، وغيرهم الكثير، ويكفي أن أشير إلى كتاب الأغاني الحافل بالأصوات والأدوار التي أبدعها فنانو وفنانات ذلك العصر.

هؤلاء الراجمون الأشاوس، في فلسطين تحديدا، يتغاضون مثلا عن شيء شبيه بهذا، ففي أحد دروس كتاب اللغة العربية في واحدة من طبعات المقررات الدراسية، اشتمل على درس للحكاية الشعبية، وللتراث الشعبي، ليس الدرس في كتاب التربية الوطنية ولا في الموسيقى بل إنه في مادة اللغة العربية، التي- لو عام أحدهم على عوم هؤلاء المجانين- لقال: إن المقصود من هذا الدرس إشاعة اللغة العامية، وتخريب اللغة العربية الفصيحة، وإنقاص من قيمة الأدب المكتوب بتلك اللغة القرآنية العظيمة، وأن هذا مقدمة لضرب العقيدة، وما شابه من هذا الخطاب الممل الساذج، لقد ذكر الكتاب الراحل “أبو عرب” رحمه الله، وهو كما هي سميرة توفيق، فنان شعبي كبير، مهتم بالأغنية التراثية. يبين الكتاب الفلسطيني دور الفنان “أبو عرب” النضالي المهم في سياق الأغنية الشعبية التي حملت هموم الناس الوطنية، كما فعلت سميرة توفيق وغيرها من الفنانات والفنانين العرب، كل في بلده، فلا يمكن أن ننسى أغاني الفنان التونسي لطفي بشناق السياسية والفلسطينية وأغاني جوليا بطرس اللبنانية وأصالة نصري السورية، وأغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم في مصر أيام الحروب، والأسماء كثيرة بل يصعب حصرها وذكرها في هذه العجالة.

هذه مهمة اجتماعية فنية، فيها الكثير من الاعتزاز بالذات والقيم وتفيض في النفس الارتياح وتعزز منظومة الأخلاقيات التي تشيع بين أفراد المجتمع، فهي نتاج وعي جماعي منتمٍ إلى هذه القيم، والفن بدوره يعيدها فنا ملحنا إلى المجتمع ليشعر بالعزة والنخوة، فالأغنية الشعبية تعبر عن هذا المزاج الشعبي في نهاية المطاف. إن الأغنية الشعبية في الأردن وفي فلسطين وفي كل بلاد العالم تسير مع غيرها من المكونات الثقافية المشكّلة لحركة الفن والثقافة، وهذان رافدان مهمان لأي ثقافة حية، موجودة عندنا نحن العرب، وموجودة عند غيرنا.

هذا أمر مهم، من الضروري فهمه في إدراك مرامي الأغنية الشعبية، ودورها، وخاصة في رسم صورة للشعب أكثر من الأدب الرسمي، فأغاني سميرة توفيق الأردنية المذكورة في مربع التعريف، ساهمت في ترسيخ صورة الشعب الأردني المضياف المحب للغير المعطاء والكريم، ليس في البلاد العربية وحدها، بل في الحفلات التي كانت تحييها في العالم، وهذا الكرم الأردني كنا جربناه نحن الفلسطينيين على امتداد عمر نكبتنا الأليمة والعميقة والمستمرة، فكانوا لنا الأنصار، على الرغم أننا لم نكن دوما مهاجرين جيدين!

وهذا الحديث لا أسوقه إقحاما إنما لأن أغاني الفن الشعبي الأردني تحث عليه وتؤكده في كثير من الأعمال الفنية، فوجدت في أغاني الفنان الأردني الأصل والمنشأ والتاريخ عمر العبداللات، فقد أبدع كثيرا في ترسيخ هذه اللحمة الحقيقية بين الأردنيين والفلسطينيين الذين شكلوا شعبا واحدا، وليسوا شعبين اثنين، لا فرق بيننا، ولا يمكن أن يكون هناك فرق.

إن من كتب الأغنية الشعبية الأردنية، وركّبها على الألحان التراثية شعراء معدودون من شعراء الصف الأول، عربيا وأردنيا من أمثال حيدر محمود وحبيب الزيودي وسليمان عويس، وغيرهم بطبيعة الحال، ممن كتبوا فأبدعوا، فماذا سيقول هؤلاء المتنمرون عن تلك الأغاني الشعبية التي كتبها شاعر من هؤلاء الكبار؟ وهل عند هؤلاء سيكون للأغنية الوطنية المكتوبة باللغة الفصيحة الحكم نفسه عندهم؟ فهل الاعتراض على شخص الفنانة أم على الموضوع؟ وإذا كان التنمر على شخص الفنانة، لماذا لم يتنمروا على فيروز، وقد وجدت يوما في أحد مقررات التعليم المدرسي في اللغة الإنجليزية، فهي أيضا أدت أغاني شعبية وغزلية؟ إنهم لن يجدوا أجوبة مناسبة منطقية لكل تلك الأسئلة، وسيسقط في أيديهم.

على هؤلاء قبل أن ينتقدوا المناهج العربية، أن ينتقدوا مناهجهم هم الوطنية، وتحديدا نحن الفلسطينيين، فقد اشتملت أحد كتب اللغة العربية على أغنية لكاظم الساهر، عدا ما في تلك الكتب من هنات وضعف بنيوي، وما تحتويه من نماذج أدبية ومقالات سقيمة ولا تصلح للتعليم. ولا أريد أن أعيد كلاما قلته في ذلك، وأنا أحد أبناء هذا النظام التعليمي، فهو منشور يمكن لأي منصف باحث عن الحقيقة أن يقرأه أو يقرأ المقررات الفلسطينية ذاتها ليلوم صانعيها، قبل أن (يحذف) الطوب على زجاج الآخرين ليحاول كسره، فلا يستطيع، إنما يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه مجرد شخص أعمى، يخبط في تيه الأفكار دون أن يكون له أثارة من علم.

إنني هنا، ولا أخجل من ذلك- أدافع عن الخبرة الأردنية التربوية في صناعة مناهج ومقررات دراسية غاية في التنظيم والعمق والدراية، وأحمد الله أنني كنت من ذلك الجيل، بل الأجيال من الطلاب الفلسطينيين الذين تلقوا العلم على مقاعد الدراسة منذ الصف الأول الابتدائي وحتى التوجيهي بكتب المناهج الأردنية، فكانت لنا عونا وتركت فينا أثرا لا يمحى إلى الآن، في كل تلك المواد الدراسية، من التربية الإسلامية إلى التربية الفنية، مرورا باللغة العربية والإنجليزية والعلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا. فما زلت إلى الآن أتذكر كثيرا من المعلومات التي تغذّى بها عقلي من تلك المرحلة.

هذه الخبرة المتراكمة الواعية الجليلة هي التي صنعت مقررات ومنهاج الأردن للعام الدراسي الحالي 2024/ 2025. وجاء كتاب التربية الفنية والموسيقية والمسرحية الذي أورد ذكر الفنانة العظيمة سميرة توفيق، نتاج هذه الخبرة، في معالجة المادة التعليمية أسوة بغيره من الكتب التي تنهل من هذه الخبرة، وما على المغرضين المتنمرين الجهلاء التافهين إلا أن يديروا أصابعهم ويشغّلوها لتبحث عن موقع تلك المناهج على الإنترنت ليتمتعوا- عدا جمالية التصميم الفني- بجمال الخبرة العقلية والتربوية والتعليمية والتقويمية التي يتمتع بها الكتاب الأردني التعليمي.

وأخيرا أقول: أطال الله في عمر الفنانة سميرة توفيق حقيقةً، ومجازاً في الوعي الجمعي العربي بحضور أغانيها، وكل عام وطلاب وطالبات العلم في الأردن وفلسطين والبلاد العربية والعالم بألف خير. وشكرا لهؤلاء المتنمرين الذين جعلوني أبحث وأنتبه للطبعة الجديدة- وكنت على اطلاع دائم على الطبعة القديمة- جعلوني أنتبه إلى مناهج التعليم الأردنية لهذا العام، داعيا المجتمع التربوي الفلسطيني إلى الانتباه إليه والاستفادة منه، ففيه الكثير من الخير والفائدة، فليس عيبا أن نتعلم من خبرةٍ قارب عمرها قرنا كاملاً أو يكاد، وثبت أن مخرجاتها التعليمية ذات سويّة عالية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com