نداء يونس تغرّد شعراً في باريس

باريس، فلسطين (4/7/2025)
شاركت الشاعرة والإعلامية الفلسطينية نداء يونس في فعاليات “سوق الشعر” (Marché de la Poésie) التي أقيمت في العاصمة الفرنسية باريس ما بين 18 و22 حزيران/ يونيو 2025، حيث كانت فلسطين ضيف الشرف في هذه الدورة التي شهدت حضورًا شعريًا وثقافيًا واسعًا.
وجاءت مشاركة الشاعرة يونس عبر مجموعة من القراءات والأمسيات والحواريات الشعرية، وتزامنت مع إصدار اثنين من أعمالها: “على حواف حادة” Sur des bords tranchants عن دار لانسكين الفرنسية، وكتابها ثنائي اللغة “لي جسدان – Two Bodies – Zwei Körper” باللغتين الإنجليزية والألمانية عن دار Königshausen & Neumann، والذي يحمل على غلافه تعليقاً يمثل اختراقاً سياسياً وثقافياً في ألمانيا: ومما جاء فيه: “يواجه منجز الشاعرة نداء يونس الإبداعي قوتين متعارضتين: الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى منذ زمن طويل إلى السيطرة على فلسطين وشعبها، والنظام الأبوي المتجذر بعمق، الذي يصادر حياة النساء وأجسادهن ويمنعهن من التمتع بالسيادة على أراضيهن الخاصة”.
كما شهد الحدث الثقافي إطلاق الشاعرة يونس وتوقيعها أنطولوجيتها الشعرية والنقدية “تلك الكلمة المقدسة”.
ووصفت الشاعرة يونس تجربتها هذه بأنها “عميقة ومركبة”، مؤكدة أنها لحظة تمثيل رمزي لشعب بأكمله في قلب مدينة طالما شكلت مركز إشعاع ثقافي عالمي.
وقالت: “أن تكون فلسطين ضيف الشرف في حدث أدبي بهذا الحجم هو نوع من الاعتراف بالوجع والوجود، وبالصوت الفلسطيني الذي غالبًا ما يُهمَّش أو يُساء تمثيله في السرديات السائدة”. وأضافت: “أن أقرأ بالعربية وتُترجم كلماتي إلى الفرنسية أمام جمهور متنوع، كان بمثابة جسر ضروري بين عالمين: عالمنا المثقل بالاحتلال والمنفى، وعالم يتأملنا أحيانًا من مسافة”. أن نسمع في هذا الفضاء الثقافي هو خطوة مهمة، ليس فقط للتضامن، بل لفهم أعمق لتجربتنا الإنسانية. نحن لا نطلب الشفقة، بل الإصغاء الصادق. وحين يُصغي العالم إلى الشعر، قد يبدأ في رؤية ما هو أبعد من الأخبار والعناوين والتحيزات”.
وعن أنطولوجيتها “تلك الكلمة المقدسة”، أضافت صاحبة ديوان “تأويل الخطأ”: إن العمل لم يأتِ من فراغ، بل من حاجة عميقة لإعادة النظر في حضور الشاعرات الفلسطينيات في المشهد الأدبي، ليس فقط من منظور التوثيق، بل من زاوية إعادة القراءة، إعادة التسمية، وإعادة الاعتراف. ما دفعني إلى إعداد هذه الأنطولوجيا هو شعوري الدائم بأن هناك أصواتًا كثيرة كتبت من الهامش، أو تم دفعها إلى الهامش، رغم ما تحمله من جماليات لغوية، وجرأة فكرية، وتجربة إنسانية ووجودية عميقة”. وتهدف الأنطولوجيا، بحسب يونس، إلى فتح نافذة لا تكتفي بعرض النصوص، بل تُحاورها، تُضيئها، وتطرحها ضمن سياق نقدي جديد، لا يحصر الشاعرة في خانة “الضحية” أو “الرمز الوطني”، بل يعترف بها كذات خلاقة، وكمنتجة للمعنى، قادرة على تفكيك اللغة وإعادة تشكيلها.
وشدّدت على أهمية تحرير هذه الأصوات من النظرة الفوقية أو الانتقائية أو الاستشراقية أحيانًا، وأن يُتاح لها أن تتحدث بلغتها الخاصة، بتوترها الجمالي والسياسي، وأن يتم الإصغاء إليها كجزء حي ومتجدد من المشهد الشعري الفلسطيني والعربي.
وأشارت إلى أنها توشك على الانتهاء من إعداد انطولوجيا موسعة تحت عنوان “العالم كله فلسطين”، وتضم قرابة 130 شاعرة خلاف من ذكرن في الأنطولوجيا الأولى، وتوثِّق للشعر غير الكلاسيكي الذي كتبته الفلسطينيات منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى 2025 من فلسطين قبل النكبة أو بعدها، وباستخدام ذات المنهج التوثيقي النقدي.
وحول اختيار عنوان العمل، أكدت يونس أن “تلك الكلمة المقدّسة” ليست مجرد استعارة جمالية، بل موقف شعري ومعرفي في آن. في السياق الفلسطيني، الكلمة لم تكن يومًا أداة تعبير فحسب، بل كانت وما تزال شكلًا من أشكال البقاء، والمقاومة، والحفاظ على الهوية.
وأضافت يونس: “قداستها هنا لا تنبع من بعدها الديني، بل من بعدها الوجودي: الكلمة التي تشهد، التي تجرح، التي تحفظ، التي تحرّر. وتكشف. أما بالنسبة لتجارب الشاعرات الفلسطينيات، فإن قداسة الكلمة تنبع من هشاشتها أولًا، ومن كونها أحيانًا الوسيلة الوحيدة في مواجهة العنف، النفي، التهجير، ومحو السرديات. الكلمة عندنا كشاعرات ليست مجرد صوت أنثوي يبحث عن مساحة، بل هي صوت كيان يريد أن يُرى ويُصغى إليه خارج القوالب السياسية واللغوية الجاهزة. كما أن هذه القداسة ليست جامدة، بل مشروطة بالصدق، وبالتماس الحميم مع الجسد، الأرض، الذاكرة، والمقدّس، والبيت أو الجسد المهدَّد دوماً. ولهذا فالكلمة في هذه التجارب ليست رمزًا دينيًا أو وطنيًا فقط، بل هي أيضًا مساحة للتجريب، للتجديف أحيانًا، لإعادة خلق العالم شعريًا من تحت الركام، والحنين، والشك، والأمل.
وفيما يتعلق بالتمثيل الشعري النسوي في هذه الأنطولوجيا، أشارت يونس إلى أن الأنطولوجيا ضمّت شاعرات من الضفة الغربية، القدس المحتلة، غزة، الداخل الفلسطيني، والشتات “حرصت على أن تكون هذه الجغرافيا الممزقة حاضرة بكل حساسياتها، لا كمجرد تقسيم سياسي، بل كبنية شعورية وشعرية أيضًا”.
وتابعت يونس: “بلا شك، كان هناك تفاوت في شعرية القصائد داخل الأنطولوجيا، وهو تفاوت طبيعي ومطلوب، لأنه ناتج عن تعدد الأجيال، واختلاف السياقات، وتنوع الأدوات التعبيرية، والخلفيات اللغوية والثقافية، الأمر الذي ينعكس على نبرة النص، بنيته، ودرجة تكثيفه أو تجريبية، مشيرة إلى أن بعض الشاعرات يكتبن من المنفى، وأخريات من تحت أنظمة استعمارية وأبوية، وبالتالي، فلكل سياق لغته، وألمه، وطريقته الخاصة في مواجهة العزلة أو القمع أو المنفى. كما أن بعض النصوص كانت مكتوبة بالإنكليزية، وقمت بترجمتها إلى العربية، ومن ثم إلى الفرنسية. وهذه الطبقات من الترجمة لم تكن مجرد نقل لغوي، بل كانت فعل عبور، وأحيانًا فعل فقد، وأحيانًا أخرى فعل اكتشاف للذوات بلغات جديدة.
وتطرقت يونس إلى الآلية التي تتجسد فيها الفوارق السياقية في النصوص بالقول: “عنف مفتوح ضد الجسد، ودفع للأشياء كي تختفي في الضفة الغربية وقطاع غزة في ظل حرب الإبادة والاستيطان والسجون المفتوحة والجدران العازلة؛ نظام عنصري تمييزي يهدف إلى محو الهوية في الداخل المحتل عام 1948؛ فقدان المعنى وتفككه في الشتات – في ظل هشاشة الهوية واللغة، في المنافي والشتات؛ وتهديد متواصل للجسد/ البيت في القدس المحتلة”.
ووصفت التجربة الشعرية في الأنطولوجيا بأنها تمثل “كتابة الشر الإبداعي”، حيث يتحول الجسد والخطيئة والموت إلى أدوات تطهير رمزي وشعري، يُعاد تأويلها ضمن رؤى مقاومة واستعادة.
وقالت: “رغم هذا التعدد والتفاوت، لم يكن هناك تناقض، بل انسجام داخلي في تعدد الأصوات”. التقاطع كان في العمق لا في الشكل، في الإحساس الجمعي بالاقتلاع، وبالرغبة في استعادة ما هو مهدد: الأرض، والجسد، واللغة، والذاكرة. هذا ما منح النصوص طابعًا مشتركًا دون أن يُفرغها من فرادتها. في النهاية، ما جمع بين هذه الأصوات، بالإضافة إلى الهوية الفلسطينية، تلك الحاجة الإنسانية العميقة إلى أن نُصغي إلى أنفسنا، وأن يُصغي العالم إلينا، لا ككُتل سياسية، بل كذوات مبدعة، متشظية، تقاوم بالنص. هناك خيط شعري مشترك يكاد يكون ملموسًا في كل القصائد، وهو الإصرار على الكتابة من موقع الجرح دون الاستسلام له، من موقع التهشيم دون التضحية بالجمال. الشعر هنا ليس ترفًا، بل ضرورة. القصائد تعيد تشكيل الجسد، المكان، الذاكرة، واللغة، وتعريف الفلسطيني ذاته، وحتى الشر الذي يكتسب بعدا تطهريًا، في مواجهة التهجير، الذكورة القامعة، والعنف الاستعماري.
ونوهت صاحبة “كتابة الصمت” إلى أن الجسد الأنثوي يظهر أحيانًا بوصفه جغرافيا موازية لفلسطين، “فهذا الربط لم يكن مفروضًا من الخارج، ولم أبحث عنه كمقولة جاهزة، بل تكشف لي من واقع علاقتي الطويلة بكتابة الجسد، لا بوصفه – أي الجسد – موضوعًا، بل بوصفه مسافة بين القصيدة وكاتبتها. أستخدم هذا المقياس- المسافة بين القصيدة والجسد- لفحص مدى حضور الفردية مقابل الذات العامة أو الجماعية، أو ما نسميه اليوم أحيانًا “كتابة العازب”، أي الكتابة التي تنطلق من الجسد بوصفه أرشيفًا، ومساحة مقاومة، وأداة خلق، وتوتر.
وقالت: في العديد من النصوص، بدا الجسد الأنثوي وكأنه جغرافيا موازية لفلسطين، لا لأن الشاعرات قررن ذلك مسبقًا، بل لأن الجسد هنا في فلسطين يحمل طبقات من الذاكرة، والوجع، والانتهاك، والتوق إلى الحرية، تمامًا كما تحملها الأرض. هذه المقاربة تنشأ من داخل اللغة، من طريقة اشتغال المجاز، ومن التوتر بين القول والكتمان، بين الكشف والحماية، بين الشك، واليقين، والأمل، واليأس.
وأضافت يونس: ما شدّني في هذه التجارب أن الجسد لم يكن استنساخًا لصورة نمطية أو تكرارًا لخطاب جاهز، بل كان مساحة تتشكّل في كل نص بشكل مختلف، بحسب علاقة الشاعرة بذاتها، بلغتها، وبمكانها. ولذك، لم أُقحم هذا الربط في العمل الأنطولوجي مباشرة، بل في الأعمال النقدية التي قمت بإعدادها سواء في تقديم الأنطولوجيات الحالية أو في الأبحاث والمقالات النقدية التي قمت بالعمل عليها ونشرها حول ذات الموضوع، وبالتالي، فقط حرصت على أن أترك لكل جسد شعري أن يُفصح عن تضاريسه الخاصة، وأن يختار إن كان سيجاور فلسطين، أو يتفلّت منها نحو مساحته الخاصة او يخلق تزاوجاً شعرياً وجمالياً بين الجسدين.
وشددت يونس على أن حضور شاعرات من غزة في هذا العمل يحمل طابعًا خاصًا، في ظل الإبادة والحصار، معتبرة أن القصيدة الغزّية في السنوات الأخيرة باتت تحمل طاقة مكثفة من المقاومة الوجودية، تُجابه الموت بالشعر، والغياب بالحضور القاسي والمضيء للغة. وفي ظل العدوان الحالي، تصبح أصواتهن ضرورة أخلاقية وجمالية. قصائدهن ليست توثيقًا فحسب، بل هي نوع من “النجاة المؤقتة” عبر الكتابة، ومحاولة لحفظ الكرامة الإنسانية في وجه المحو. وجود شاعرات من غزة في هذه الأنطولوجيا هو أيضًا رسالة: أن غزة ليست فقط مكانًا للموت، بل للكتابة؛ ليست فقط عنوانًا للكارثة، بل أيضًا للخلق والإبداع، والقدرة على قول الحياة رغم كل شيء.
وعن الأنطولوجيا والمشاركة، يقول الصحفي كريستوفر دوفان في افتتاحيته للنشرة الخاصة التي أصدرت في سوق الشعر: “ليس من الممكن فهم الشعر الفلسطيني خارج السياق التاريخي الفريد والمأساوي لهذا الشعب، كما لا يمكن اختزاله في بعد سياسي فقط. إن الشعر الفلسطيني سابقٌ حتى للنكبة، حين كانت فلسطين تحت الحكم العثماني، ثم تحت الانتداب البريطاني قبل أن تُجزأ إلى كيانين”.
وأضاف دوفان: “اليوم، هناك أكثر من 14.4 مليون فلسطيني حول العالم، 5.4 مليون منهم في الأراضي المحتلة. ولا يمكن أن يوجد شعب بلا شعر. فماذا يعني أن تكون شاعرًا فلسطينيًا؟ ليس هذا مهنة، ولا شعارًا، بل هو أن تكون إنسانًا يهتز أمام زهرة دامعة، أو رعشة جسد تحت نسمة خريفية، كما كتب محمود درويش.
وتابع: الشاعرات الفلسطينيات كُنّ حتى وقت قريب غير ممثلات بشكل كاف. وحدها فدوى طوقان استطاعت كسر السقف الزجاجي في القرن الماضي. أما اليوم، فهناك عودة قوية، حيوية، ومؤثرة للشاعرات، من جيل جديد. يظهر ذلك في الأنطولوجيات التي أنجزها عبد اللطيف اللعبي، ومشروع نداء يونس الأنطولوجي بترجمة مع محمد القاسمي. إنه تقليد شعري مستمر، رغم العزلة والمنفى، ورغم الانكسارات السياسية. فالشاعرة الفلسطينية اليوم تكتب من قلب الداخل، كما من المنافي، لتقول: “أن تكون فلسطينيًا، يعني أن يكون العالم كله وطنك، لكن العالم لا يريد أن يعترف بذلك”.
بدورها، قالت الصحفية ألكسندرا شفارزبروت في صحيفة اللوموند في تقريرها الخاص الذي نشر مع اليوم الأول من افتتاح سوق الشعر ( 18-6-2025 ): “تشارك نداء يونس في “سوق الشعر” في باريس، الذي يُقام حتى الأحد ويستضيف فلسطين كضيف شرف”، وذلك “في احتفال كانت السلطات قد رفضته عام 2024 خوفًا من الاضطرابات السياسية”.
وأضافت شفارزبروت “إذ عطّلت الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد إيران حركة الطيران في المنطقة، إلا أنها تمكنت بصعوبة من مغادرة رام الله إلى باريس يوم الأربعاء. نداء، المولودة في طولكرم عام 1977، حاصلة على دكتوراه في الاتصال والإعلام، ومؤلفة سبعة دواوين شعرية، وعدة مجموعات شعرية، بعضها نُشر بدعم من الشاعر السوري الشهير أدونيس.
وتابعت: إنها فرصة لاكتشاف نوع أدبي تجدّد بعمق، خصوصًا بفضل النساء”، مؤكدة تحول الشعر الفلسطيني “اليوم إلى عمق جديد، خصوصًا تحت تأثير النساء، اللواتي أصبحن أكثر حضورًا في هذا النوع الأدبي، للتعبير عن هويتهن، وجراحهن، ونضالهن المزدوج في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومجتمع فلسطيني لا يزال محافظًا جدًا وبطريركيًا”.