من الهندسة الإدراكية إلى هندسة الهيمنة: آليات “إسرائيل” في التأثير على الوعي الفلسطيني والعالمي لخدمة مشروعها الاستعماري

الدكتور : عـمـر رحـال
الهندسة الإدراكية تعرف بوصفها عملية منهجية ومقصودة لإعادة تشكيل المفاهيم والتصورات الذهنية لدى الأفراد والمجتمعات، من خلال التحكم في المعلومات والخطاب والرموز والصور، بهدف توجيه الإدراك الجمعي نحو فهم معين للواقع يخدم أهدافاً سياسية أو أيديولوجية أو اقتصادية محددة.
وبناءًا على ذلك لا تقتصر الهندسة الإدراكية على بث المعلومات أو الترويج الدعائي، بل تتجاوز ذلك إلى بناء منظومة معرفية متكاملة تعيد تعريف الأحداث، والخرائط، والمصطلحات، وحتى الحقائق التاريخية والجغرافية، بطريقة تملي على الأفراد كيف يرون أنفسهم، والآخر، والواقع المحيط بهم.وتعد هذه العملية أداة إستراتيجية تستخدمها الدول، والمؤسسات الإعلامية، والأنظمة السياسية، للتأثير على وعي الأفراد والمجتمعات، وتوجيه سلوكهم وتصوراتهم، بما يخدم مصالح تلك الجهات، وغالباً ما تتم هذه العملية بصورة تدريجية بصورة مباشرة وغير مباشرة، مما يصعب على المتلقي إدراك حجم التأثير الذي يمارس عليه.
من هنا سعت (إسرائيل)، منذ نشأتها، إلى ترسيخ شكل محدد من الهندسة الإدراكية في الوعي الفلسطيني والعربي والدولي، تقوم على إعادة تشكيل الفهم الجمعي للواقع السياسي والجغرافي والتاريخي، بما يخدم أهدافها الإستراتيجية في السيطرة، التوسع، وتطبيع الاحتلال باعتباره وضعاً طبيعياً أو أمراً واقعاً لا جدال فيه. الهندسة الإدراكية، بهذا المعنى، لا تتوقف عند حدود الدعاية السياسية أو الإعلامية، بل تتغلغل في الخطاب الأكاديمي، المؤسسات البحثية، المناهج التعليمية، منصات التواصل الاجتماعي، وحتى في إنتاج الخرائط والمعايير القانونية الدولية، لتشكيل صورة ذهنية منسجمة مع الرؤية الصهيونية للمكان والحدث والهوية.
أحد أبرز ملامح هذه الهندسة الإدراكية يتمثل في السعي إلى نزع الصفة الاستعمارية عن المشروع الصهيوني وتقديمه كحركة تحرر قومية مشروعة، في مقابل توصيف الفلسطينيين إما كجماعات مشتتة بلا هوية وطنية واضحة، أو كمصدر تهديد أمني دائم. هذا النمط من التصور يغذي رواية مفادها أن وجود (إسرائيل) في المنطقة هو استمرارية لـ”وعد تاريخي” أو “تصحيح لمسار ظلم تاريخي”، متجاهلًا في الوقت ذاته النكبة، والتهجير القسري، والاحتلال المستمر، والانتهاكات اليومية التي يعاني منها الفلسطينيون منذ أكثر من سبعة عقود.
الشق الثاني من هذه الهندسة الإدراكية يتجلى في التشكيك الممنهج بشرعية الحقوق الوطنية الفلسطينية، عبر مسارين متوازيين؛ الأول قانوني، يتمثل في محاولات دؤوبة لتفريغ القانون الدولي من مضامينه الجوهرية المتعلقة بحق تقرير المصير، حق العودة، وحظر الاستيطان، وتحويل النقاش القانوني إلى قضايا إجرائية بحتة أو جدل تقني حول المصطلحات. أما المسار الثاني فهو إعلامي، يستند إلى تضخيم أحداث فردية مرتبطة بالنضال الفلسطيني، وتقديمه كأدلة قاطعة على (الخطر الفلسطيني)، بينما تحجب أو تبرر الجرائم المنهجية اليومية التي ترتكبها(إسرائيل) بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
إضافة إلى ذلك، تلعب الخرائط دوراً محورياً في هذا المسعى الإدراكي، إذ يتم إنتاج خرائط تتجاهل حدود الرابع من حزيران 1967، وتتجاهل فلسطين كوحدة جغرافية متصلة، أو تبرز الكتل الاستيطانية كجزء لا يتجزأ من (إسرائيل)، ما يعيد تشكيل الوعي الجغرافي لدى الأجيال الجديدة داخل دولة الاحتلال وفي أوساط الرأي العام الغربي، ويفرغ أي حديث عن دولة فلسطينية من مضمونه الواقعي. هذه الخرائط ليست مجرد أدوات تقنية، بل أدوات هندسة معرفية وسياسية تهدف إلى تكريس واقع الاحتلال والتوسع كحقيقة ثابتة، في مقابل تهميش الرواية الفلسطينية.
جانب آخر بالغ الأهمية في هذه الهندسة الإدراكية يتمثل في توظيف دولة الاحتلال لقدراتها التكنولوجية المتقدمة، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لتعزيز سيطرتها على السرديات، وضبط فضاءات النقاش الإلكتروني، وخلق اتجاهات رأي عام تعيد إنتاج الرؤية الإسرائيلية للصراع. تعتمد (إسرائيل)، في هذا السياق، على استراتيجيات دقيقة لرصد الخطاب المناهض لسياساتها، وتوجيه حملات مضادة، وتضخيم الأصوات المؤيدة لها، ما يجعل من منصات التواصل بيئة خاضعة جزئياً لهذا الشكل من الهندسة الإدراكية، بحيث يعاد إنتاج المفاهيم، وترتيب الأولويات، وحتى صياغة التساؤلات بشكل يخدم المشروع الإسرائيلي.
كما لعب راديو (صوت إسرائيل) دوراً خطيراً في محاولة هندسة إدراك الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إذ لم يكن مجرد وسيلة إعلامية عادية، بل أداة دعائية إستراتيجية حاولت تشكيل وعي المستمع الفلسطيني ، عبر برامج إخبارية وترفيهية واجتماعية وحتى دينية ، فكانت تلك البرامج تتناول قضايا حياتية، واجتماعية، تلك البرامج كانت مصممة بعناية لتبدو قريبة من نبض الناس وهمومهم اليومية، حاولت من خلالها دولة الاحتلال تمرير رسائلها السياسية والأمنية المبطنة ، كما كانت تخفي في طياتها رسائل تطبيعية وتبريرية للاحتلال. فقد قدم الراديو نشرات أخبار بلغة عربية سلسة ،واستعان بمذيعين فلسطينيين لتقديم نشرات الأخبار التي كانت تبث كل ساعة ، هذا إلى جانب بث برنامج أحداث الظهيرة يومياً، وبرنامج زينة الدنيا الموجه للمراهقين والشباب ،وبرنامج الأبراج ،وبرنامج وما يطلبه المستمعون …الخ.هذا إلى جانب بث أغاني لكبار الفنانين العرب وفي مقدمتهم أم كلثوم التي كانت أغانيها تبث في الفترة المسائية ، وأيضاً عبد الحليم حافظ ، وفريد الأطرش ، وأسمهان ، وليلى مراد ، ومحمد عبد الوهاب، وفايزة أحمد ، وغيرهم من الفنانين والعازفين ، وذلك بهدف استقطاب أكبر عدد من المستمعين الفلسطينيين للإذاعة الإسرائيلية .
كما كانت الإذاعة الإسرائيلية ومن خلال خطة إعلامية مدروسة تستخدم مجموعة من المصطلحات، وذلك بهدف التأثير على الوعي الجمعي للفلسطينيين ، واعتبار الاحتلال مقبولاً يمكن التعايش معه ، فقد وُصفت القدس (أورشليم) بأنها يهودا والضفة الغربية على أنها السامرة. والمناطق بدلاً من الضفة الغربية ، وذلك من أجل تشويش المفاهيم وتزييف اللغة السياسية والاجتماعية.فهذه المصطلحات لم تكن عشوائية، بل جرى توظيفها بدقة لتعكس الرواية الإسرائيلية وتعيد إنتاج الواقع من زاوية تخدم مشروع السيطرة والهيمنة. لذلك استخدمت الإذاعة مصطلح (الإدارة المدنية) بدلاً من (الحكم العسكري)، لتصوير الوجود الإسرائيلي في الضفة وقطاع غزة على أنه خدماتي وتنظيمي وليس احتلالاً قسرياً. كما استخدمت تعبيرات مثل (الكيان الفلسطيني) أو (السكان العرب في يهودا والسامرة) بدلاً من الشعب الفلسطيني والضفة الغربية، في محاولة يائسة لطمس الهوية الوطنية وتقويض الوعي بوحدة الأرض والحقوق. أما المقاومين فقد وصفتهم (بالمخربين) ، والأعمال النضالية (بـأحداث أمنية) أو(أعمال تخريبية)، أو(أعمال شغب) ولاحقاً المقاومون أصبحوا (إرهابيين) أو (عناصر معادية)، وذلك لنزع الشرعية عن النضال الوطني ووضعه في خانة الجريمة. في المقابل، تم تسويق الحقوق الطبيعية كأنها (تسهيلات للفلسطينيين)، لتصوير (إسرائيل) كجهة مانحة للامتيازات، كما استخدمت الإذاعة عبارات مثل (العيش المشترك) و(التعايش) لتخفيف شعور الفلسطينيين بالتمييز والعدوان، ولإقناعهم بأن الحل ليس في مقاومة الاحتلال بل في التكيف معه. وعند كل موجة غضب شعبي، كانت الإذاعة تروج لفكرة أن ما يجري هو (تحريض من الخارج)، بهدف نزع الدافع الوطني من الفعل الشعبي وتغريب الحراك عن قاعدته.
حتى الاستيطان سُوق على أنه (استيطان ريفي) أو (توسع سكاني)، لتخفيف وقع الجريمة الاستعمارية، وإظهارها كحالة تطور طبيعي. كما فرض تصنيف الفلسطينيين بين (معتدلين) و(متطرفين)، كما رُوّج لخطاب (الاقتصاد المزدهر) و(تحسين مستوى المعيشة)، وكأن الاستعمار هو فرصة تنمية، لا منظومة قهر واستغلال. هذه المصطلحات مجتمعة كانت أدوات لتفكيك الوعي الوطني الفلسطيني، وذلك بهدف إنتاج جيل فلسطيني محاصر ليس فقط بالجغرافيا، بل أيضاً باللغة والرواية والرمز، في واحدة من أخطر معارك التأثير على الوعي في ظل الاحتلال.
لذلك تلعب وسائل الإعلام والمتحدثون الرسميون دوراً محورياً في إستراتيجية الهندسة الإدراكية التي تسعى (إسرائيل) إلى ترسيخها على المستويين المحلي والدولي، من أجل إعادة تشكيل الوعي الجمعي تجاه طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتثبيت الرواية الإسرائيلية كحقيقة راسخة في الإدراك العام. تقوم هذه الإستراتيجية على استغلال الفضاء الإعلامي بكافة أشكاله، سواء التقليدي أو الرقمي، لتوجيه الرسائل وإعادة إنتاج المفاهيم والمصطلحات بطريقة تخدم أهداف الاحتلال وتعيد تعريف الواقع بما يتماشى مع الرؤية الصهيونية. من خلال منظومة إعلامية احترافية شديدة التنظيم، توظف (إسرائيل) متحدثين رسميين ناطقين بلغات متعددة يتم اختيارهم بعناية، ليس فقط بناءًا على مهاراتهم الخطابية، بل أيضاً وفق قدرتهم على التلاعب بالمفاهيم، مثل أوفير جندلمان رئيس القسم العربي لرئاسة الوزراء السابق في دولة الاحتلال .وعدد من المحللين السياسيين الإسرائيليين الناطقين باللغة العربية مثل مائير كوهين ، ويوني بن مناحيم ، وشلومو غانور، وإيلي نيسان ، وآخرين من خلال استخدام لغة سياسية ودبلوماسية دقيقة، وتقديم صورة مدروسة تحاكي العقل الغربي على وجه الخصوص.
ويظهر ذلك بوضوح في المؤتمرات الصحفية، المقابلات التلفزيونية، التصريحات المقتضبة، وحتى في المنشورات الموجهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تركز هذه المنظومة على إعادة تعريف الأحداث بشكل ممنهج؛ فسياسات الاستيطان تُقدم باعتبارها (خلافات عقارية)، وجدار الفصل يوصف (بـالحاجز الأمني)، وجرائم القتل والاغتيالات تبرر تحت شعار “الدفاع عن النفس”، في حين تختزل القضية الفلسطينية إلى مجرد أزمة إنسانية أو مشكلة أمنية تحتاج إلى حلول تقنية مؤقتة، لا إلى معالجة جذرية للاحتلال والظلم التاريخي. ولا يقتصر الأمر على القنوات الرسمية، بل يمتد إلى استراتيجيات أوسع تشمل إنتاج الأفلام الوثائقية، تنظيم المؤتمرات الأكاديمية، التفاعل المنهجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واستغلال الأحداث العالمية الكبرى لفرض الرواية الإسرائيلية باعتبارها الرؤية العقلانية والموضوعية الوحيدة. هذا التوظيف المكثف للإعلام والمتحدثين الإعلاميين يسهم في تضليل الرأي العام، ويعيد برمجة الإدراك الجمعي للمجتمعات المستهدفة، ما يؤدي إلى تآكل التعاطف مع الحقوق الفلسطينية، وتراجع الفهم الموضوعي لطبيعة الاحتلال، وتحويل النقاش السياسي والأخلاقي إلى جدل سطحي حول التفاصيل، بعيداً عن جوهر الصراع القائم على الاحتلال، التهجير، والتمييز العنصري. بذلك، يصبح الإعلام أداة مركزية ضمن منظومة الهندسة الإدراكية التي توظفها (إسرائيل) ، ليس فقط لنقل الأخبار أو الدفاع عن السياسات، بل لإعادة تشكيل العقول، وخلق بيئة معرفية مشوهة تشرعن الاحتلال وتهمش الرواية الفلسطينية في الوعي الإقليمي والدولي.
(إسرائيل) كذلك تستثمر بشكل ممنهج في استراتيجيات (تطبيع الوجود)، والتي تقوم على تقديم الاحتلال والتمييز كمكونات روتينية للحياة اليومية لا تستدعي الاستنكار أو المواجهة، بل تستدعي التأقلم والتسليم. هذه الإستراتيجية تنعكس في حملات العلاقات العامة، المشاريع الاقتصادية العابرة للحدود، التعاون الأكاديمي، وبرامج التبادل الثقافي التي تتجاهل السياق السياسي والحقوقي، وتروج لفكرة (إسرائيل) كدولة متقدمة تكنولوجياً وديمقراطية وسط محيط متخلف أو غير مستقر، مع تغييب متعمد لحقيقة كون هذه الدولة قائمة على الاحتلال والفصل العنصري والاستيطان.
ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه المؤسسات البحثية والأكاديمية الإسرائيلية في هذا الإطار، حيث تنتج مراكز الدراسات ودوائر البحث الأكاديمي كماً هائلاً من الأبحاث والمقالات التي تعيد صياغة التاريخ والجغرافيا والسياسة وفق منظور يخدم الهندسة الإدراكية الإسرائيلية. هذه المؤسسات تحرص على نشر أبحاثها في المجلات والصحف والمنصات العالمية المرموقة، ما يمنحها شرعية علمية زائفة، ويكرس مفاهيم مثل “الصراع المعقد”، “نزاع ديني قديم”، أو “خلاف حدودي”، وكلها مصطلحات تساهم في التعتيم على جوهر القضية باعتبارها احتلالاً إستعمارياً واضحاً وفق القانون الدولي.
أما على المستوى الدولي، فإن الدبلوماسية الإسرائيلية، مدعومة بلوبيات سياسية وإعلامية قوية، تسعى لترسيخ صورة مفادها أن (إسرائيل) دولة محاصرة، تواجه تهديدات وجودية دائمة، ما يبرر إجراءاتها القمعية ضد الفلسطينيين، ويعيد تشكيل مفهوم “الأمن” ليشمل قمع الحقوق والحريات الفلسطينية كإجراء مشروع. هذا المفهوم المضلل للأمن يتغلغل في سياسات الدول الغربية، وفي تغطية وسائل الإعلام الدولية، ويساهم في خلق بيئة سياسية وقانونية تكرس الإفلات من العقاب (لإسرائيل)، وتقزم الحق الفلسطيني في الحرية والعدالة إلى مجرد قضية إنسانية أو ملف إغاثي.
بذلك، لا تعد الهندسة الإدراكية الإسرائيلية مجرد نشاط دعائي عابر، بل هي إستراتيجية مركبة، عميقة الأثر، تسخر أدوات معرفية، قانونية، إعلامية، تكنولوجية، وسياسية، بهدف إعادة تعريف الواقع الفلسطيني والإسرائيلي في الوعي العالمي، على نحو يكرس الاحتلال، ويضعف الرواية الفلسطينية، ويعيد إنتاج المفاهيم بما يخدم المشروع الصهيوني. ولعل خطورة هذا المسار تتفاقم مع الزمن، إذ أن ترسيخ هذه الرؤية المُهندَسة في أذهان الأجيال الجديدة، داخل فلسطين وخارجها، يهدد بإحداث قطيعة معرفية تضعف النضال الفلسطيني وتشرعن الظلم تحت غطاء المفاهيم المعاد إنتاجها علمياً وإعلامياً.