جبل العرب بين مطرقة إسرائيل وسندان الشرع

 وقفات على المفارق

اليوم 21 تمّوز الذكرى المئويّة لانطلاق الثورة العربيّة السوريّة الكبرى 1925!

الوقفة الأولى… مع مقدّمة

في هذه الأجواء من التحريض والتحريض المُضاد، وهذا الكمّ من الأفلام التي تقشعرّ لها الأبدان والمنشورات التي تقطر سمّا بعد أن صار كلّ حامل جهاز اتّصال محلّلا، وغالبيّة الفضائيّات الناطقة بالعربيّة منصّاتِ تخبيص لمن هبّ ودبّ من شخصيّات، وعلى ضوء هول ما حدث سابقًا في الساحل السوريّ واليوم في السويداء يتحفظّ المرء عن كتابة كلّ ما يؤمن به أو حتّى يعرفه كيّ لا يؤجّج المشاعر أكثر ممّا هي متأجّجة، وكي لا يسيء!

لا أعرف إن كان أيّ طرح تحليليّ عقلانيّ هادئ في مثل هذه الأجواء يجد له مطرحًا، ولكن كما قالها أمل دُنقل بعد هزيمة ال-67 بعد أن عجزت الأقلام عن الكتابة: “قلها وامضِ!”، وأمّا أنت فقلها وأجرك على صاحب الأجر؛ التاريخ.

الوقفة الثانية… مع “الجيش العربي السوري!”

كنت من أولئك، وعلى مدى فترة طويلة، من المدّعين كتابةً وفي المقابلات على وسائل الإعلام المختلفة أنّ النظام الجديد في سوريّا لن يدخل جبل العرب عنوة، ليس لأنّه نظام متنوّر وإنّما لأنّ مصلحته في ذلك. وفعلًا وعلى مدى أشهر طويلة جرت الكثير من الاتّصالات بين النظام وقيادات في الجبل أسفرت عن تفاهمات أيّار ال-25 وفي صلبها: بسط الدولة سلطتها الأمنيّة على الجبل بقوى الأمن والضابطة العدليّة من أبناء السويداء (بالمناسبة السويداء تضمّ قرابة الثلث من غير الدروز؛ سنّة ومسيحيّون وكانوا شريكين في التفاهمات) على أن يكون المحافظ وقائد قوى الأمن من قبل الدولة، وبُدئ التنفيذ وشهدت السويداء فترة هدوء وإن كانت حذرة.

فما الذي حدا ممّا بدا حتّى تمّ خرق هذه التوافقات في ال-13 من تمّوز وانفجرت الصدامات المحليّة بين سكّان الجبل من الدروز والبدو بدءًا، والتي تطوّرت بتسارع أعقبها دخول قوافل “الجيش العربي السوري”، والذي بيّنت سريعًا فظائعه أنّه لا عربيّ ولا سوريّ!

الوقفة الثالثة… إن كنت تريد أن تعرف ما حصل في السويداء فاذهب إلى باكو – أذربيجان!

دخول الشرع هذا ما كان ليتأتّى لولا موافقة إسرائيل التي تمّت في لقاء باكو- أذربيجان إثر زيارة الشرع وتزامنها مع وفد إسرائيليّ أمنيّ رفيع المستوى، ولو لم يتمّ التنسيق لكانت إسرائيل ضربت قوافل “الجيش” في طريقها إلى الجبل وقبل وصولها إلى السويداء، وهي المعلنة صبح مساء أنّها لن تسمح بدخول الأسلحة الثقيلة ولا حتّى المتوسّطة جنوبيّ الشام، وإضافةً ما كان الشيخ الهجري أصدر بيان الترحيب بقدوم الجيش، لو لم يكن الأمر كذلك. فكيف صار ذلك ولماذا؟!

تناقلت كلّ الفضائيّات الناطقة بالعربيّة والداعمة للتنسيق الإسرائيلي السوريّ عشيّة الدخول تصريح المسؤول الأمنيّ الإسرائيلي: “لن ندخل بريّا إلى محافظتيّ درعا والسويداء ونحن ننسّق الخطوات مع حكومة دمشق”. أبعد هذا الوضوح وضوح؟!

إسرائيل وبعد ال-7 من أكتوبر ومساهمتها الفاعلة في إسقاط النظام السابق تدرك جيّدا أن البديل؛ النظام الجديد، فيه مكامن خطر عليها وبغضّ النظر عن “تبدّل الأزياء”، فسعت إلى ضرب ما بقي من مقدّرات الجيش السوري وإلى بناء جدار عازل واسع باحتلالها أراضٍ سوريّة إضافيّة.

الجزء الشمالي من جنوب شرق سوريّا؛ من القنيطرة وريفها وحتّى جبل الشيخ غدا تحت سيطرتها وهي تسرح وتمرح فيه حتّى أرياف الشام بتنسيق أمنيّ مع النظام الجديد، حتّى لو ظنّ البعض أنّه: “مكره أخاك لا بطل”. وبقي الجزء الجنوبيّ عقبة لوجود درعا حاجزًا بشريّا، هذا الجزء يعجّ بالمليشيات المنفلتة وممّا هبّ ودبّ منها وتتركّز في المثلّث الذي خلف درعا والقريب من خط وقف إطلاق النار؛ درعا – اليرموك- السويداء، وإسرائيل تريد سيطرة عليه وجدتها في الشرع فكان التوافق بأن يدخل الجيش السوري لبسط السيطرة على المنطقة وتحمّله المسؤوليّة، إلّا أن الأمور انزلقت إلى ما انزلقت إليه بعد أن تبيّن أنّ ما يُسمّى “الجيش العربي السوري” راح يرتكب الفظائع ولا هو عربيّ ولا هو سوريّ، فأعلن الشيخ الهجري أن ترحيبه تمّ تحت الضغط (ممّن يا تـرى؟!) وتدخّلت إسرائيل، لا حبّا في الدروز ولا تحت ضغطهم هنا ومطالبتهم هناك. والبيّنة لمن يريد بيّنة تجدها دون عناء في التصريحات التي أطلقها كلّ من رئيس الدولة هرتسوغ ورئيس الحكومة نتانياهو غداة الهجوم البرابريّ وفيها الإشارة إلى أنّ همّ إسرائيل الأوّل هو الجهاديّون هناك، وانسحب “الجيش العربيّ السوريّ!”.

القضيّة أكبر من كلّ سُنّة ودروز الشرق الأوسط، القضيّة إقليميّة – عالميّة، فشلت بعض القيادات هنا وهنالك من قراءتها وقد حصرت، بمحدوديّتها، الموضوع وكأنّه “طوشة عرب” وثأر من هنا وثأر مضاد من هنالك! ومن قرأ الصورة قراءة مختلفة من قيادات درزيّة إقليميّة كان عُرضة للقذع والتشهير وفي مقدّمها الحزب التقدّمي الاشتراكي اللبناني وزعيمه وليد جنبلاط، ورغم أنّنا نختلف وإيّاه في بعض أطروحاته رغم العلاقة الوثيقة مع الحزب ومعه شخصيّا، لكنّ التاريخ سيثبت ثِقب البصر والبصيرة عنده وسيبلع المتطاولون ألسنتهم إن كان في العمر متّسعٌ، هاجموه على أصله الكرديّ فما رأيهم اليوم على ضوء موقف الكُرد من السويداء؟!

الوقفة الرابعة… مع وقف إطلاق النار ووحدة الفصائل الجبليّة

قبل أن ينسحب الجيش ورغم ما ارتكب تمّت صياغة اتّفاق فيه عودة على الاتّفاق أو التوافقات التي كانت تمّت في أيّار 2025، تمّ ذلك في ليل ال-14 من الشهر وأعلنه الشيخ الجربوع، ولقد تمّ ذلك قبل “التدخّل” الإسرائيلي المسرحي بضرب دبّابة هنا وأخرى هناك داخل السويداء. ولكن سرعان ما أعلنت “العشائر” النفير وغزت الجبل معزّزة بقوّات الشرع ومباركته والتي حيّاها في خطابه فكان القول الفصل. توالت السيطرة على كلّ قرى شمال – غرب الجبل وعيث فيها فسادًا وحرقًا وتنكيلًا بما تبقّى من أهلها (27 قرية ما زالت تحت سيطرة العشائر)، ودخلت طلائع العشائر الحيّ الشماليّ الغربيّ من السويداء، وإسرائيل تتفرّج. وهنا توحّدت البندقيّة فلم يعُد هنالك؛ هجري وحنّاوي وجربوع وأطرش وحجّار وبلعوس، صار جبل العرب، إذ لم تحد الفظائع عن أحد؛ لا عن توافقي ولا عن رافض.

الوقفة الخامسة… مع Deal with the Devil.

طغت على المشهد المقولة: “حالف الشيطان ردّا لأذى فوق استطاعتك”، وصار دعاتها في الجبل يطلقونها جهارًا بعد أن كان قبلًا التحفّظ رديفها حتّى من دعاتها. ولكن يغيب عن هؤلاء أنّ أصل المقولة في الثقافات قديمًا هو الاعتقاد أنّ بعض الأشخاص يقومون بهذا النوع من الصفقات كعلامة على الاعتراف بأن الشيطان هو سيدهم، وبدون أن يحصلوا على مقابل، إلّا أنّه حتّي في هذه الحالة فإنَها لا تزال تُعتبر صفقة خطيرة، حيث أن ثمن صداقة الشيطان هو روح من يريد صداقته. تحتوي القصص التي تتحدث عن الصفقة مع الشيطان على نهايات ذات موعظة أو نهايات تعطي مغزى اتّعاظي، حيث تحلّ اللعنة الأبدية على المتهور الذي سلم روحه للشيطان. أنقل المعلومة كما هي تاريخيّا فلا يذهبنّ أحد بها في أيّ اتّجاه أو تجاه أيّ كان!      

وبغضّ النظر عن المقولة فإنّ الدعوة لاستجلاب التدخّل الخارجيّ، خصوصًا الإسرائيلي، من هنا ومن هنالك هي أمر خطير ولا يصبّ في المدى لا القريب ولا البعيد في مصلحة الدروز، فعلى العكس تمامًا إنّه يؤجّج النقمة أوّلًا ويحرج بقيّة الناس من التنويريّين غير الطائفييّن من أبناء الأمّة الذين خرجوا دعمًا للسويداء في كلّ موقع، وهم كُثر. مطلقو مثل هذه الدعوات لا يفقهون أبعاد مثل هكذا دعوات وبغضّ النظر عن دوافعهم ونواياهم حتّى لو حسُنت. إسرائيل ليست بحاجة لمثل هذه الدعوات لضرب المرافق السوريّة ولكن حينما يتزامن هذا الضرب مع هذه الدعوات فهو يؤجّج الكراهيّة تجاه الدروز أكثر وأكثر، فأيّ مصلحة لهم في ذلك محليّا وإقليميّا؟!

الوقفة السادسة… والأقليّة والأكثريّة

المؤسف والمؤلم أنّ القوى الوطنيّة عندنا هي الأخرى لم ترتقِ إلى مستوى الحدث وعلى كثرتها ظلّت الشرذمة فيما بينها قائمة وكلٌّ يغنّي على ليلاه وعلى منصّته الديجيتاليّة. صحيح أنّها الأقليّة في المشهد الدرزيّ المحلّي ولكنّ شرذمتها جعلتها لا تستطيع حتّى الآن القيام بأيّ فعلٍ يرتقي إلى مستوى الحدث، ولا أن تشكّل حالة على الأقلّ في وسائل الإعلام التي دأبت أن تتعامل مع دروز الداخل ك-“عشيرة” لا تعدّدية فيها ولا رأي آخر إلّا رأي الموالين للمؤسّسة على اختلاف مشاربهم والخلافات التي بينهم. ويبدو أن البعض غير القليل من عقولنا وقوانا الوطنيّة اكتفى بالمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعيّ وهي أكثر ممّا تُحصى ولكنّها تبقى بين جدران المواقع و- “كفى الله المؤمنين شرّ القتال!”

الوقفة السابعة… حصانة أهل الجبل والحلّ

الطريق لحقن الدماء والسدّ المنيع أمام المتربصيّن شرّا بسوريَة وأهلها وأمنهم وأمانهم، هو العودة لاتفاق أيّار بين غالبيّة فعاليّات الجبل والنظام الجديد (ولا يحسبنّ أحد إنّي من محبّذيه)، الاتّفاق الذي كان بدأ تنفيذه فعلًا، ولكن ما من شكّ أنّ هنالك قوى مغرضة داخليّة وخارجيّة فجّرته لا تحمل همّ سوريّا ولا همّ دروز سوريّا، وهذا لا يبرّئ النظام من شراكته أو دوره في الخرق. مواقف الغالبيّة العظمى من القيادات العربيّة الدرزيّة وكلّ القوى الوطنيّة من كافّة شرائح الشعب السوريّ ترفض مخطّطات التقسيم وزرع الفِتن، وتطلق مبدأ الحوار حفاظًا على السلم الأهليّ وحقن الدماء، وترفض رفضًا قاطعًا أيّ تدخّل خارجيّ وتعمل على وأد الأصوات التي تدعو لمثل هكذا تدخّل على قلّتها.

الوقفة الثامنة… وتراث أهل الجبل

إنّ أهل الجبل محصّنون بتراثهم النضاليّ القوميّ العروبيّ ولن يفرّطوا بهذا التراث المجبول بدمائهم كما تراب الجبل، هذه الثقة تتعزّز كذلك في هذه الأيّام العصيبة حين نرى منهم المواقف التي نعهدهم بها؛ الاستعداد للتضحية وردّ أيّ عدوان والاحتكام إلى العقل والحوار ضمانًا لسلامة بلادهم ووحدتها وبالتالي سلامتهم. فالاحتكام إلى الحوار في سبيل وحدة الأراضي السوريّة هو الفيصل وهو السدّ في وجه الفِتن ومشعليها.

ألم يجئ في موروثنا (القرآن الكريم): والفتنة أشدّ من القتل؟!

وألم يجئ فيه (أفلاطون): الجهل مع الدين إرهاب؟!

سعيد نفّاع

21 تمّوز 2025

الذكرى المئويّة لانطلاق الثورة العربيّة السوريّة الكبرى 1925م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com