مروان البرغوثي: في مواجهة بن غفير.. بقلم/ حلمي أبو طه

في سجون الاحتلال الإسرائيلي، يقبع آلاف الأسرى الفلسطينيين، ممن ضحّوا بأعمارهم وحرّيتهم دفاعاً عن وطنهم، حاملين على عاتقهم إرث الصمود والكفاح المستمر منذ عقود. هؤلاء الأسرى يمثلون قلب القضية الفلسطينية النابض، وصوت الحرية الذي لا ينطفئ رغم القيد والجدار والأسلاك الشائكة. هم رموز لإرادة الشعب الفلسطيني، وبين هذه الرموز، يبرز أسم مروان البرغوثي، ليس كمجرد أسير أو شخصية سياسية، بل قضية وطنية حية ورمز خالد للصمود الفلسطيني. فالصمود الذي أبداه مروان داخل السجون، وسط ظروف قاسية، ليس مجرد مثال على التحمل، بل هو درس في القيادة والمقاومة، إنه يثبت أن الاحتلال لا يمكنه التحكم في إرادة شعب يعيش منذ عقود تحت الحصار والتهجير والاعتقالات السياسية. وليؤكد حقيقة واحدة: كل محاولة لتقويض الرموز الوطنية الفلسطينية ستبوء بالفشل. فمروان البرغوثي شاهد على أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
منذ اعتقاله في 2002، وحتى اليوم، ظل مروان البرغوثي قائداً ورمزاً وطنياً داخل السجون وخارجها، قادراً على التأثير في الرأي العام الفلسطيني، وفي صوغ رسالة واحدة واضحة: الحرية والكرامة لا تُستسلمان، ولا يمكن لأي تهديد أو تشويه أن يمحو أثرها. لعب مروان البرغوثي دوراً بارزاً في الانتفاضتين الأولى والثانية، وفي تنظيم المقاومة الشعبية والسياسية، ما يجعله امتداداً لتاريخ طويل من الكفاح الوطني. استطاع تعزيز التضامن بين الأسرى، ودعم النشاطات الثقافية والسياسية داخل السجون، ليصبح مثالاً حياً على القيادة والمقاومة الحقيقية. فهو يعلم أن المعركة الحقيقية ليست فقط في المواجهة العسكرية أو القانونية، بل في التأثير على الضمير الفلسطيني والعالمي، وفي إبقاء القضية حية في وجدان كل فلسطيني حر. وأي محاولة لتشويه صورته لن تمر مرور الكرام؛ فالفلسطينيون يعرفون قيمته، ويعلمون أنه رمز للوحدة والصمود الوطني.
وفي ظل تصعيد الاحتلال ومشاريع التوسع الاستيطاني والتطبيع العربي والاسلامي، تأتي تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير. في مقطع فيديو قصير نشره – مكتب بن غفير نفسه – وقد تم تداوله رسمياً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وكافة المنصات والقنوات الإعلامية الإسرائيلية، كما حظي بتغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام الدولية مثل “الجارديان”، “وول ستريت جورنال”، “سكاي نيوز”، وغيرها، والتي أبرزت أن الفيديو تم بثه علنياً، مما يضفي عليه طابعاً سياسياً واضحاً. فقد ظهر الوزير داخل زنزانة البرغوثي وهو يقول له: “لن تنتصروا… من يعبث مع شعب إسرائيل، من يقتل أطفالنا أو نسائنا، سنمحيه. يجب أن تدركوا ذلك، هذا ما حصل عبر التاريخ”. الفيديو يظهر ردّاً ملموساً من مروان البرغوثي — وإن كان قصيراً جداً ومُقطعاً – حيث بدا وهو يهز رأسه في محاولة لتعليق أثناء تهديد بن غفير، ويُشاهد وهو يحاول الرد بعبارة تبدأ بـ”أنت تعلم…” قبل أن يقوم بن غفير بمقاطعته على الفور قائلاً: “لا، لا بد أنك تعلم هذا، على مر التاريخ”. يمنح هذا التبادل انطباعاً بأن البرغوثي حاول الرد، لكنه لم يُمنح الفرصة لمواصلة كلامه أو الإفصاح عن جانبه من الحديث. ومن المؤكد أن الرد حضر وبقوة الحجة والبرهان ولكن تم اقتطاعه، ومن المؤكد أنه ترك حصرة وغمة في نفس بن غفير فهو يعلم أنه مجرم وارهابي قاتل، عدا أنه موقن أنه كاذب.
بن غفير، منذ توليه وزارة الأمن القومي (نهاية 2022)، أصدر تهديدات علنية بأن البرغوثي لن يرى النور خارج السجن، ودعواته المتكررة إلى تشديد ظروف اعتقال الأسرى وحرمانهم من أبسط الحقوق (الغذاء، التعليم، الزيارات). ومطالبته بسنّ قوانين تسمح بـ إعدام الأسرى الفلسطينيين الذين تتهمهم إسرائيل بقتل إسرائيليين. لكن كل هذه بقيت تصريحات إعلامية وسياسية، وليست مواجهات مباشرة داخل السجن. إلى أن جاءت الزيارة التي قام بها لزنزانة البرغوثي وتوثيقها بالفيديو فهي الأولى من نوعها، سواء من حيث المواجهة المباشرة أو نشر التهديد علناً أمام الكاميرا. فالمشهد الأخير تصعيد غير مسبوق لأنه تم داخل السجن وبصورة علنية. الفيديو أثار إدانات واسعة، حيث وصفته وزارة الخارجية الفلسطينية بأنه “استفزاز غير مسبوق وإرهاب دولة منظم”. عائلة البرغوثي عبّرت عن صدمتها من تغير ملامحه، مشيرين إلى مظهره الهزيل وضعف حالته الصحية، وخلصت إلى أن زيارة بن غفير والتهديد أعادا تسليط الضوء على وضعه الصعب داخل الزنزانة الانفرادية منذ أكتوبر 2023.
تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي ليست إلا اعترافاً بالخطر الذي يشكله هذا الأسير على السياسات الإسرائيلية، ففي كل مرة يحاول بن غفير، استهداف شخصية مروان البرغوثي أو تشويه صورته، يظهر البرغوثي أكثر قوة وثباتاً في وعي الشعب الفلسطيني. كما يظهر جلياً خوف الاحتلال من تأثير مروان البرغوثي على الشارع الفلسطيني، ومن قوته في توحيد الصفوف حتى من داخل السجون.
فمروان البرغوثي ليس مجرد أسير محكوم عليه بالسجن مدى الحياة، بل هو رمز حي للمقاومة الفلسطينية المستمرة، للثبات أمام آلة القمع، وللوحدة الوطنية التي يهابها الاحتلال. وللعزيمة التي لا تنكسر أمام القمع والاعتقالات السياسية. وأي تصريح عدائي تجاهه، مهما حاول الاحتلال تلوينه، لن يغير حقيقة أنه يمثل صمود الشعب الفلسطيني كله، وأن كرامة الفلسطينيين ستظل فوق أي تهديد أو خطاب تحريضي. وعلى الصعيد الدولي، يحظى البرغوثي بالاهتمام والتقدير العالمي، ما يجعل أي محاولة إسرائيلية لتشويه صورته دليلاً على هشاشة موقف الاحتلال أمام المجتمع الدولي، وإدراكه أن الرموز الفلسطينية الحقيقية تبقى مؤثرة حتى خلف القضبان.
ومن رفح إلى جنين، ومن غزة إلى الضفة، يحمل الفلسطينيون صورة القائد الأسير مروان البرغوثي في وجدانهم، فهو الأمل بأن هناك من يقف في وجه الظلم، من يدافع عن كرامة الإنسان الفلسطيني وحقه في الحرية. ومن مخيمات النزوح بغزة ومن وسط التجويع رسالتنا واضحة: لكل من يؤمن بالحرية والكرامة، ولكل من يتابع القضية الفلسطينية في العالم، التضامن مع الأسرى، ودعم رموز الصمود، هو رسالة حيّة بأن الشعب الفلسطيني سيظل صامداً، متحداً، ومصمماً على الحرية والاستقلال. ولن نسمح للتصريحات الإسرائيلية بتقويض رموزنا الوطنية، ونعلن بكل وضوح دعمنا للأسرى وقادتنا في مواجهة كل محاولات الاحتلال. فالأسرى هم ضمير شعبنا الحي، وصوت الحرية في وجه السجان، مهما حاول بن غفير وأمثاله أن يُطفئوا نورهم أو يساوموا على كرامتهم. مؤكدين أن كرامة فلسطين ووحدتها فوق كل تهديد وكل خطاب تحريضي.
رسالتنا للوزير المتطرف إيتمار بن غفير، قد تظن أن اقتحامك لزنزانة أسير مثل مروان البرغوثي، ومعك الكاميرات والتهديدات، سيمنحك صورة المنتصر، لكن الحقيقة أن وقوفك أمام رجل أعزل مكبل خلف القضبان، يكشف ضعفك وخوفك أكثر مما يكشف قوتك. الأسرى الفلسطينيون ليسوا إرهابيين كما تحاول أن تصفهم، بل هم أبناء قضية عادلة، حملوا وجع شعبهم ودافعوا عن أرضهم. هؤلاء الأسرى، وعلى رأسهم مروان البرغوثي، لم يدخلوا الزنازين لأنهم اعتدوا على إنسانيتكم، بل لأنهم دافعوا عن حق شعبهم في أرضه وكرامته. إن تهديداتك لن تنال من عزيمة أسرانا، ولن تمحو حقيقة أن هؤلاء الرجال والنساء هم عنوان الكرامة الفلسطينية، وأن صمودهم هو الفضيحة الأخلاقية الكبرى للاحتلال الذي تمثله. الحرية التي تسكن قلوبهم، أقوى من قضبانك وجدرانك، وسيبقى البرغوثي وإخوانه رمزاً للإرادة الصلبة التي لا تنكسر، ورسالة واضحة بأن الحرية حق، وأن الظلم إلى زوال. ندعو الله أن يثبت قلوب أسرانا، ويشد على أياديهم، ويجعل صبرهم شرفاً لهم ولنا جميعاً، وأن يكتب لهم الفرج القريب والحرية العاجلة، وأن يرينا في الظالمين يوماً يبرد به صدور المستضعفين. فالليل مهما طال، لا بد أن يعقبه فجر، والحرية مهما تأخرت، لا بد أن تأتي بإذن الله.