قراءة نقدية ممتعة من قبل الشاعر والناقد عادل جوده والشاعرة والناقدة رانية فؤاد مرجية للنص حين يزهر الفجر …

حينَ يُزهِرُ الفَجر…!
نص ٌ بقلم: د. عبدالرحيم جاموس
أيُّها المَجدُ…
اِنحنِ…
مِن بَينِ الرُّكامِ يَنهَضُ صَدى الحَياة،
ومِن تَحتِ الرَّمادِ يَتَفَتَّحُ غُصنُ الزَّيتون…
دُموعُ الأُمَّهاتِ شَلالاتُ وَجَعٍ،
لكنَّها أيضًا أنهارُ أملٍ …
تَسقي تُرابَ فِلسطينَ باليَقين….
*
أيُّها المَجدُ…
صَفِّقْ،
لِلأَطفالِ الَّذينَ يَكتُبونَ أَسماءَهُم…
على جُدرانِ اللَّيلِ بِحُروفِ النُّور،
لِلشُّيوخِ الَّذينَ يَشُدُّونَ أَزرَ الأَرضِ …
كَيلا تَنحَني لِلعاصِفَة،
لِلنِّساءِ الَّلواتي يُخبِّئنَ الفَجرَ …
في صُدورِهِنَّ،
لِلرِّجالِ القابِضينَ …
على جَمرِ الثَّورَة،
كَأَنَّهُمُ المآذِنُ …
تَشقُّ غُبارَ السَّماء…
*
أيُّها النَّصرُ…
تَقَدَّمْ،
وازرَع خُطاكَ في الأَزِقَّةِ …
والبيوتِ المُهدَّمَة،
واكتُب على جُدرانِ القُدسِ:
هُنا يُولَدُ فَجرٌ جَديد،
هُنا لا يَنكسِرُ الحُلمُ …
وَلَو سالَ نَهرُ الدَّم…
*
في غَزَّةَ،
في نَابُلسَ والخَليل،
في حَيفا وعَكَّا والجَليل،
في بَيتِ لَحمٍ وأَريحا ورَفَح،
في طولكرمَ ودَيرِ البَلَحِ والنَّقَب…
هُنا تُزرَعُ القَصيدَةُ دَمًا ووُرودًا،
وهُنا يَرتَفِعُ عَلَمٌ واحِدٌ …
لا يَعرِفُ الانكسار…
*
أيُّها النَّصرُ…
أَعلِن بَيانَك:
شَعبُ فِلسطينَ ..
لا يَرفَعُ إلّا رَاياتِ الوَحدَة،
رَاياتِ الثَّورَةِ …
حتّى آخِرِ حَجَر،
حَتّى آخِرِ قَلبٍ …
يَخْفِقُ في المَنفى،
حتّى يَنكسِرَ القَيدُ …
وتُفتَحَ أَبوابُ الفَجرِ …
على مِصاريعِها….
*
سَنَصبِرُ…
وَإِن طالَ اللَّيل،
وَنَثبُتُ…
كَالجُذورِ في صَخرِ الجِبال…
لَن تَذْهَبَ التَّضحِياتُ هَباء،
فمِن دَمِ الشُّهَداءِ ..
يَنهَضُ الوَطَن،
ومِن جِراحِهِ..
تُزهِرُ الحُرِّيَّة…
سَتَتَحَقَّقُ الأَمانِي…
ومَهْما طالَ السَّفَر،
سيَعودُ الحُلمُ…
وَيُزهِرُ الفَجْر من جَديدْ …!
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض / الأحد
24/8/2025 م
قراءة أدبية لنص: “حينَ يُزهِرُ الفَجر…!” للدكتور عبدالرحيم جاموس**
يُقدِّم د. عبدالرحيم جاموس في نصه الشعري “حينَ يُزهِرُ الفَجر…!” لوحةً أدبيةً مهيبةً تجمع بين القوة والرقة بين الألم والرجاء، وبين الواقع المرير وطموح الحرية.
إنه نصٌ لا يُقرأ فقط بعيني القارئ بل يُستشعَر بعمق القلب ويُتغنى به الصوت المتوجع المُلِه المُصِرّ على الحياة.المُل
أولًا: البنية الفنية واللغوية
يُبنى النص على تكرارٍ مُؤثرٍ لعناصرٍ خطابيةٍ، كأنه نداءٌ متصاعدٌ من أعماق الأمة:
- “أيُّها المجدُ… اِنحنِ”
- “أيُّها المجدُ… صَفِّقْ”
- “أيُّها النصرُ… تقدَّمْ”
- “أيُّها النصرُ… أَعلِن بَيانَك”
هذه الدعوات ليست مجرد تكرار بل تصاعد دراميّ في الخطاب يبدأ بالانحناءة احترامًا للتاريخ والدم، ثم يتحول إلى تصفيقٍ للصمود، ثم إلى دعوةٍ حاسمةٍ للنصر، ثم إلى إعلانٍ صريحٍ ببيان التحرير.
إنها بنيةٌ تشبه صلاةً ثورية أو ترانيمَ ثأرٍ ورجاء.
والأسلوبُ شعريٌّ رائق يمتزج فيه التصوير بالرمز ويُصاغ بلغةٍ فصيحةٍ عذبة بعيدةً عن التعقيد لكنها حاملةٌ لأقصى درجات البلاغة.
فالكلمة هنا ليست مجرد وسيلة
بل سلاحٌ وعلمٌ وشعلة.
ثانيًا: الرموز والصور الشعرية
يُحْكَم النصُّ بالرمزية العميقة التي تُنبض بالهوية الفلسطينية:
- “من بين الركام ينهض صدى الحياة”
صورةٌ تُجسّدُ المفارقة بين الدمار والحياة وكأن الصوت وحده كافٍ لإنقاذ الوجود.
الركام لا يُسكت الحياة بل يُولد صداها.
- “من تحت الرماد يتفتّح غصن الزيتون”
الزيتون شجرة الجذور شجرة الوفاء شجرة الأرض. أن يُزهر من تحت الرماد فهو دليلٌ على أن فلسطين لا تموت وإن اختنقَ ظاهرها فإن باطنها ينبض بالحياة.
- “دُموع الأمهات شلالات وجع، لكنها أيضًا أنهار أمل”
تحوّل دموع الحزن إلى مصدر ريّ للأرض كأن الألم نفسه يُصبح وقودًا للثورة.
هنا، الأم ليست فقط رمزًا للحزن بل للإنتاج للبذر للإحياء.
- “يكتبون أسماءهم على جدران الليل بحروف النور”
الأطفال يُقاومون بالكتابة،بالهوية، بالنور.
الليل لا يملك عليهم سلطانًا لأنهم يُضيئونه بأنفسهم. إنها صورةٌ مهيبةٌ عن مقاومة الهوية.
سلطان
– “النساء يُخبئن الفجر في صدورهنّ”
الفجر ليس حدثًا آتيًا بل كنزٌ مُختزَن في قلوب النساء اللواتي يحملن المستقبل في صدورهنّ كأن كل امرأة فلسطينية حاملٌ بالحرية.
- “الرجال القابضون على جمر الثورة”
الجمر رمز الألم لكنه أيضًا رمز الدفء والحياة. القبض عليه دون تردد يُظهر التمسك بالثورة ولو احترقت الأيدي.
ثالثًا: الجغرافيا كهوية
يُحشد الشاعر تعدادًا جغرافيًا مؤثرًا:
غزة، نابلس، الخليل، حيفا، عكا، الجليل، بيت لحم، أريحا، رفح، طولكرم، دير البلح، النقب…
إنها ليست مجرد أسماء مدن، بل تُراثٌ، وذاكرة، ودمٌ، وانتماء.
التعداد يُشعر القارئ بأن فلسطين لا تُجزّأ وأن كل حجرٍ فيها يُنادي بالحرية.
إنها فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها، من شمالها إلى جنوبها.
رابعًا: الوحدة والثورة حتى النهاية
الشاعر لا يتحدث عن نصرٍ سهل بل عن نصرٍ مُستحَقّ بالدم والصمود:
”شعب فلسطين لا يرفع إلا رايات الوحدة… حتى آخر حجر، حتى آخر قلب…”
هنا يُقدّم مفهومًا جوهريًا:
الوحدة ليست خيارًا، بل هي جوهر المقاومة.
والثورة ليست مرحلة، بل حالة وجود.
والتكرار في “حتى آخر…” يُوحي باللا محدودية بالاستمرار حتى النهاية كأن الثورة ليست مشروعًا بشريًا عاديًا، بل وعدًا أزليًا مع الأرض.
خامسًا: الصبر واليقين
الختام يُعيدنا إلى الفجر لكنه فجرٌ لم يُولد بعد بل هو وشيك:
”سَنَصبِرُ… وَإِن طالَ اللَّيل، وَنَثبُتُ… كَالجُذورِ في صَخرِ الجِبال…”
الصبر هنا ليس سكونًا بل مقاومة صامتة، ثابتة، كجذور الشجرة التي لا تُهزم بالعاصفة.
والمقطع الأخير:
”مِن دَمِ الشُّهَداءِ يَنهَضُ الوَطَن، مِن جِراحِهِ تُزهِرُ الحُرِّيَّة…”
هو تحوّل جذري من الموت إلى الحياة من الجرح إلى الازدهار.
فالدم ليس نهاية، بل بذرة.
والجراح ليست خسارة، بل تربة.
سادسًا: الدلالة الزمنية والمكانية
التوقيع في (الرياض، 24/8/2025) لا يُقلل من قوة النص، بل يُظهر أن فلسطين ليست حكرًا على أرضها فقط، بل تُنبض في قلوب المُسلمين والمُحبين في كل مكان.
الشاعر في مغتربٍ جغرافي، لكنه في قلب المعركة.
خاتمة: الفجر الذي لا ينتهي
”حينَ يُزهِرُ الفَجر…!” ليس نصًا عن الأمل فقط، بل عن اليقين.
الفرح ليس في النصر القادم بل في أن النصر حتميّ لأن الشعب لا ينكسر لأن الأرض لا تنسى لأن الدم لا يُهدر سُدى.
هذا النص هو *نداءٌ، وصلاةٌ، وبيانٌ ثوريّ*، كُتب بلغةٍ شعريةٍ فائقة الجمال، تلامس الروح وتُوقظ الضمائر.
هو صرخةُ حياةٍ من قلب المأساة
وهو ضوءٌ يشقُّ ظلام القهر.
نعم …سيُزهر الفجر…
وليس لأنه ممكن، بل لأنه “محتوم” ما دام في قلوب الفلسطينيين نبض وفي أيديهم جمر، وفي أعينهم نور.
تُوفي النص في القلب قبل أن يُقرأ على الورق.
وتُنبت القصيدة، كالزيتون، في صخر المعاناة.
وتبقى فلسطين…
حُلمًا لا ينكسر، وفجرًا لا يغيب.
تحياتي واحترامي. ا. عادل جوده
قراءة نقدية وارفة وجدانية في نص “حين يُزهر الفجر…!”
بقلم: رانية مرجية
مدخل وجداني
حين تتفتح الكلمة على شرفات الدم، وحين تتزيّن اللغة بدموع الأمهات وصمود الرجال، وحين ينهض النص من بين الركام كزهرة زيتون، ندرك أننا أمام كتابة ليست عابرة، بل أمام شهادة وجدانية، وصرخة شعرية تحمل بين ثناياها معنى الانتماء والخلود. نص الدكتور عبد الرحيم جاموس “حين يُزهر الفجر…!” ليس مجرد بوح، بل هو نشيد مقاوم، يزهر فيه الحرف كما يزهر الفجر بعد ليلٍ طويل من الغياب.
⸻
بلاغة العنوان
العنوان بذاته وعد، يحمل في طياته صورة ولادة جديدة: الفجر يزهر. والفجر عادةً يُشرق، يطلع، يتوهج؛ لكن الشاعر جعله يزهر، ليحوّل الزمن إلى حياة، وليجعل من الضوء كائنًا ينمو، منغرسًا في الأرض والدم معًا. هذا الاختيار البلاغي يضعنا منذ البداية في فضاء النص: فضاء التحول من الرماد إلى الغصن، من الدم إلى الوردة، من الليل إلى الفجر.
⸻
صور الألم والرجاء
يمتاز النص بمزجٍ بديع بين ثنائية الألم والرجاء:
• دموع الأمهات تظهر شلالات وجع، لكنها تنقلب إلى أنهار أمل تسقي التراب باليقين. هنا تتحول المعاناة إلى طاقة حياة.
• الأطفال والشيوخ والنساء والرجال يتوزعون في مشهدية متكاملة، ينسجون خيوط الصمود بأدوارهم المختلفة، في لوحة شمولية تُظهر أن الوطن لا يقوم على فرد، بل على جماعة موحدة تحمل الحلم.
• المآذن التي تشق الغبار تتحول إلى رمزٍ للثبات، فهي ليست فقط معمارًا دينيًا، بل جسد ثائر يعلن أن النصر روح قبل أن يكون مكانًا.
⸻
الجغرافيا كقصيدة
النص لا يكتفي بالصور، بل يفتح لنا خريطة فلسطين كأنها مقطع شعري ممتد: غزة، نابلس، الخليل، حيفا، عكا، الجليل… هذا التعداد ليس جغرافيًا بقدر ما هو استحضار وجداني، يُحوّل الأمكنة إلى شواهد على البقاء، ويؤكد أن الفجر القادم ليس محدودًا بمدينة بل يزهر على أرض كاملة، من النقب حتى رفح.
⸻
الإيقاع والبيان
يتسم النص بإيقاع خطابي/شعري قوي، يعتمد على نداءات متكررة: “أيها المجد… أيها النصر…”. هذه النداءات تذكّر بالبيانات الثورية، وتُضفي على النص بعدًا ملحميًا. لكن جماله يكمن في كونه لا يكتفي بالشعار، بل يُطعِّمه بصورة وجدانية حية: شلالات، جذور، غصون، أنهار، أزقة… وهكذا يتحول البيان السياسي إلى قصيدة قلبية.
⸻
خاتمة وجدانية
“حين يُزهر الفجر…!” ليس مجرد نص يُقرأ، بل هو نص يُعاش. فيه صوت الأمهات، فيه دم الشهداء، فيه خفق المنفى، وفيه يقين العودة. إن عبد الرحيم جاموس يكتب هنا قصيدة الوطن الممتدة بين الرماد والنهوض، بين الليل والصبح، بين الغياب والحضور.
النص يحمل إلينا حقيقة واحدة: أن الفجر لا يكتفي بالشروق، بل يزهر من جديد، لأن الأرض التي ارتوت بالدم والدموع، لا تعرف إلا الإزهار . رانية فؤاد مرجية
قراءة نقدية ادبية ممتعة للنص “البيوت لا تموت..”!للشاعر والناقد والأديب الأستاذ عادل جوده والأستاذة الشاعرة والأدبية والناقدة رانية فؤاد مرجية إحترامي وتقديري ومحبتي لكم .
البيوتُ لا تموت ….!
نصٌ بقلم د. عبد الرحيم جاموس
حينَ تَشتعلُ الذاكرةُ بالحنين…
وتُطلُّ الأمكنةُ من نوافذِ الغياب،
تصيرُ الروحُ مرآةً للزمن،
تُعيدُ إلينا مَن رحلوا
كما لو أنَّ خطواتِهم
ما زالت تُصافحُ الطرقات…
*
ذكرياتٌ مؤلمة…
الأماكنُ تُوجِعُني،
المنازلُ صارتْ هياكلَ من صمت،
تَشهَدُ على مَن مَرُّوا يوماً…
كأنهم نُجومٌ أطفأها الغياب…
*
جُدرانٌ ما زالت تحتفظُ بالسرِّ،
بصدى ضحكةٍ انطفأت،
وبرائحةِ خُبزٍ كان يملأُ الفجرَ دفئاً،
وكؤوسِ قهوةٍ لم تكتمل…
كأنَّ الأرواحَ علّقت فيها…
شظايا حضورٍ لا يموت…
*
إنها البيوتُ التي حملتْ أعمارَنا،
وعاشتْ حكاياتِ أجيالٍ …
تداولتْ فيها الفرحَ والحزن،
ورسمت على جُدرانها …
ملامحَ طفولةٍ …
ومَواعيدَ شباب،
ثمَّ تُركتْ عاريةً للريح،
تقرأها العيونُ …
كما تُقرأ الكتبُ القديمة …
*
الذكرياتُ مؤلمةٌ…
لكنها تُغذّي فينا الحنين،
وتَسكبُ في القلبِ نارَ الشوق،
إلى ماضٍ يُشبهُ الأسطورة،
إلى أحبابٍ غابوا كالمطر،
لكنَّ أسماءَهم ما زالت …
منقوشةً على حجارةِ الأزقّة،
وعلى أبوابٍ تَئنُّ كلَّ مساء …
*
نحنُ أبناءُ هذه الأمكنة،
نحملُها في دمِنا،
نستمدُّ منها صمودَنا،
وكلما أطبَقَ الليلُ …
تذكّرنا أنَّ البيوتَ …
لا تموتُ بمن غادرها،
بل تبقى شاهدةً،
تحفظُ ذاكرةَ الأرض،
وتسقي الأجيالَ اللاحقة …
بالمعنى، وبالحنين،
وبالوعدِ الذي لا يزول …
*
هكذا تبقى البيوتُ كتاباً مفتوحاً،
يُقَلِّبُ صفحاته الأبناء،
ويزرعُ الأحفادُ زيتونَهم …
في طينِها المبارك،
ليظلَّ النهرُ شاهداً على المضي،
والشجرةُ شاهدةً على الجذور،
والأرضُ شاهدةً على الوعد،
كي يعرفَ القادمون أنَّ التراثَ لا يموت،
وأنَّ الحياةَ وإن تبدّلت،
تظلُّ تُولَدُ من جديد،
جيلاً بعد جيل،
كالفجرِ حينَ يُزهِرُ كلَّ صباح …
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض / الإثنين
25/8/2025 م
قراءة أدبية في نص “البيوت لا تموت”
بقلم ا. عادل جوده
يقدّم الدكتور عبدالرحيم جاموس في هذا النص النثري الشعري مرثيةً وجوديةً للمكان والذاكرة، حيث يمتزج الحزن بالأمل، والفقد بالخلود. النص هو رحلة في أعماق الذاكرة الإنسانية، يستحضر من خلالها الكائنَ الذي لا يموت: البيت.
أولاً: عتبة العنوان ومفتاح النص يبدأ النص بعنوان قوي ومفارق:
”البيوتُ لا تموت ….!”.
هذه الجملة الاسمية المؤكدة بنقطة التعجب تشكل ثيمة النص المركزية وأطروحته الأساسية.
إنها نفي للموت عن كيان مادي (البيت) يُفترض أنه صامت، لتحيله إلى كائن حي، شاهدٍ وخالد.
النفي “لا” هنا ليس لنفي الموت فحسب بل هو إثبات لحياة أخرى حياة في الذاكرة والرمز.
ثانياً: تشكيل الصورة الفنية وتجسيد الذاكرة يعتمد النص على بناء صور فنية قوية تجسّد المعنوي وتحوله إلى مادي ملموس:
· الذاكرة المشتعلة بالحنين:
الحنين هنا ليس سلبياً، بل هو طاقة نارية توقد الذاكرة.
· “تُطلُّ الأمكنةُ من نوافذِ الغياب”:
صورة مفارقة جميلة، حيث يصبح الغيابُ نافذةً تطل منها الأمكنة، فيقلب العلاقة بين الحاضر والغائب.
· الروح مرآة الزمن:
الروح هنا هي أداة الالتقاط والتخزين، تعكس الماضي بكل تفاصيله.
· “هياكلُ من صمت”:
يصف البيوت المهجورة، فالصمت هنا مادة بناء، وهو صمتٌ ناطقٌ يشهد على من كانوا.
· “نُجومٌ أطفأها الغياب”:
استعارة مكنية رائعة توحي بالضوء الذي كان موجوداً ثم انطفأ، لكن ذكرى ضوئه باقية.
· “تشهَدُ على مَن مَرُّوا”:
فكرة الشهادة متكررة، مما يعطي البيوت بعداً أخلاقياً وتاريخياً.
ثالثاً: توظيف الحواس وبناء العالم الحسّي يبنى عالم النص على استدعاء حسي عميق يجعل القارئ يعيش التجربة:
· السمع:
”صَدى ضَحكَةٍ انْطَفَأت”، “تئنُّ الأبواب”.
· الشم:
“رائحةِ خُبزٍ كان يملأُ الفجرَ دفئاً”.
· البصر:
“ملامحَ طفولة”، “كُؤوسِ قهوةٍ لمْ تكتمل”، “تُقْرَأُ الكُتُبُ القديمة”.
· اللمس:
”خُبزٍ كان يملأُ الفجرَ دفئاً”، “طينِها المبارك”.
هذا التنوع الحسي يخلق واقعاًشعورياً غنياً، يجعل الذكريات حيةً وكأنها تحدث الآن.
رابعاً: البناء الانزياحي والمجازي يتميز النص بانزياحات لغوية جميلة تخرق المألوف لتخلق عالمها الشعري الخاص:
· انزياح المكان:
تحويل البيت من جماد إلى كائن حي (شاهد، يحتفظ بالسر، يُقرأ).
· انزياح الزمن:
الماضي لا ينتهي، بل هو حاضر في المرآة والذاكرة. المستقبل (“الوعد الذي لا يزول”) هو امتداد لهذا الماضي.
· مجاز الاستمرارية:
الثنائيات المتلازمة (النهر والمضي، الشجرة والجذور، الأرض والوعد) تؤكد فكرة الخلود والاستمرار.
خامساً:
الإيقاع والدلالة على الرغم من كونه نثراً،فإن النص يحمل إيقاعاً موسيقياً داخلياً ناتجاً عن:
· التوازن الصوتي:
في عبارات مثل “الفرحَ والحزن”، “ملامحَ طفولةٍ … ومَواعيدَ شباب”.
· التكرار:
تكرار كلمات مثل “شاهدة”، “حنين”، “مؤلمة”، “ذاكرة” مما يعمق الفكرة الرئيسية ويخلق نغمة تأملية.
· الجمل القصيرة والطويلة:
تخلق تناغماً بين العجلة (في استحضار الذكرى) والبطء (في التأمل).
سادساً: الرؤية الفلسفية:
الموت والخلود يقدم النص حلاًللمفارقة بين فناء الإنسان وخلود أثره.
الموت الفردي (“مَن غادرها”) لا يعني موت المعنى الجماعي. البيت هو الوعاء الذي يحول التجارب الفردية إلى تراث جماعي (“كتاباً مفتوحاً”).
الخلود هنا ليس للأشخاص، بل للقيم التي مثلوها: الدفء، الكرم، العائلة، والتاريخ. إنه خلود المعنى الذي “يَسقي الأجيالَ اللاحقة”.
// الخاتمة:
”البيوت لا تموت” هو نص ينتمي إلى أدب الذاكرة والحنين إلى المكان (نوستالجيا).
إنه يرثي ليس بيوتاً من طين وحجر، بل يرثي عالماً من القيم والإنسانية المفقودة في زمن العولمة والاغتراب.
ومع هذا الحزن، فإن النص مفعم بالأمل ..
فما دامت الذاكرة حية، وما دام الأحفاد يزرعون زيتونهم في الطين نفسه، ستستمر الحياة “كالفجرِ حينَ يُزهِرُ كلَّ صباح”.
النص هو تأكيد على أن الهوية ليست في الفرد، بل في استمرارية الروح الجماعية عبر المكان والزمان.
تحياتي و احترامي.
ا. عادل جوده
قراءة نقدية وجدانية في نص الدكتور عبد الرحيم جاموس: البيوت لا تموت
بقلم: رانية مرجية
بين الذاكرة والوجود
حين قرأت نص البيوت لا تموت، شعرت أنني أمام مرآة تعكس الروح الفلسطينية بكل ما فيها من جراحٍ ووهجٍ وصمود. البيت في هذا النص ليس مجرد حجارة صامتة، بل هو كائن حي، يتنفس بالضحكات القديمة، ويحتفظ بأثر الخطوات، ويتشح بالحنين كوشاح لا يزول. النص يطرح سؤالًا جوهريًا: هل تنطفئ الأمكنة حين يرحل عنها ساكنوها؟ والإجابة هنا جليّة: لا، بل تبقى شاهدةً على من عبروا، تحفظهم وتعيد سيرتهم كلما طرقنا أبواب الذاكرة.
جماليات الصورة الشعرية
في بناءه الفني، يقدّم الدكتور جاموس صورًا تفيض حساسية وصدقًا: ضحكة منطفئة عالقة في الجدار، رائحة خبز كانت تملأ الفجر دفئًا، فناجين قهوة لم تكتمل. هذه الصور ليست وصفًا عابرًا، بل هي مفاتيح تفتح أبواب الذاكرة وتحوّل البيوت إلى أضرحة حياة، تختزن حضورًا لا يغيب. تكرار مفردات مثل الذكريات، الحنين، الأرواح، الجدران يمنح النص إيقاعًا داخليًا متماوجًا، كأنها أناشيد مقاومة خفيّة ضد النسيان.
البيت كرمزٍ للوطن
النص يشتغل على مستوى رمزي عميق: البيت هنا هو الوطن بأسره. الأزقة التي “تئن كل مساء” والبيوت التي “تُقرأ كما تُقرأ الكتب القديمة”، ليست سوى استعارات لفلسطين المهجّرة التي تظل تنبض رغم الغياب. إنَّ الإصرار على أن البيوت لا تموت هو في الحقيقة إصرار على أن الهوية الفلسطينية لا تُمحى، وأن الأرض تبقى تحمل أسماءنا مهما غاب الجسد.
جدلية الألم والبعث
أحد أجمل أبعاد النص هو قدرته على الموازنة بين الحزن والرجاء. فهو يعترف بأن “المنازل صارت هياكل صمت”، لكنه في المقابل يصرخ بأن “الأحفاد يزرعون زيتونهم في طينها المبارك”. هذه الجدلية بين الفقدان والتجدد، بين الخراب والبذور، تجعل النص أبعد من مجرد نوستالجيا، ليصبح بيانًا وجوديًا عن قدرة الحياة على الانبعاث من تحت الرماد.
قيمة النص الإنسانية والفكرية
البيوت لا تموت يتجاوز كونه نصًا وجدانيًا محليًا ليغدو نصًا إنسانيًا عالميًا. فكل إنسان، أينما كان، يعرف معنى أن يتشبث ببيتٍ أو مكانٍ أو ذكرى. لكن النص الفلسطيني هنا يمنحه عمقًا إضافيًا، إذ يرتبط بالاقتلاع والتهجير، فيصير النص وثيقة مقاومة تحفظ الذاكرة وتحمي المعنى من التلاشي. أدبيًا، هو نص يقترب من قصيدة النثر بثراء صوره وإيقاعه الداخلي، وفكريًا هو تأمل فلسفي في علاقة الإنسان بالمكان، بالذاكرة، وبالزمن.
خاتمة
البيوت لا تموت نصٌّ يشبه نافذة تُطل منها أرواح الأجيال، كتابٌ مفتوح يقرأه الأبناء والأحفاد ليعرفوا أن التراث لا ينقرض، وأن البيت هو الجذر الأول للحياة. ينجح الدكتور عبد الرحيم جاموس في تحويل الحنين إلى وعدٍ، والذاكرة إلى شهادةٍ على البقاء. في زمن التهجير والخراب، يذكّرنا أن البيوت مثل الأرواح: لا تموت، بل تعود وتولد من جديد، مع كل فجرٍ جديد، جيلاً بعد جيل.
رانية فؤاد مرجية