فلسطينُ ليستْ جوعًا…!.. نصٌ بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس

وقراءة أدبية رائعة وجميلة ومؤثرة للنص من قبل الأستاذ عادل جوده الشاعر والناقد والأديب ، وله كل الشكر والتقدير والاحترام.
النص :
منذُ فجرِ الدمِ الأوّلِ …
تُشعلُ حجارةُ القدسِ قناديلَها،
وتُورِقُ غزّةُ جرحًا …
يتحوّلُ إلى غصنِ زيتونٍ …
يعانقُ الريحَ ولا ينكسر…
*
فلسطينُ ليستْ رغيفًا …
ولا ممرًّا نحوَ مرفأٍ مقطوع،
إنها سرُّ التراب،
ورعشةُ الأجدادِ في دمِ الأبناء،
إنها قصيدةُ الأرضِ …
حينَ تُنشدُ للشمسِ أناشيدَ الصمود…
*
لا تُصغِّروها إلى كيسِ طحين،
ولا تُخدِّروها بفتاتِ الإحسان،
فهي الحلمُ الممتدُّ …
من المهدِ إلى المدى،
وهي الجدارُ الذي يحفظُ ذاكرةَ البيتِ …
من أن يُمحى…
*
منذُ النكبةِ،
منذُ أن حُمِّلَ الأطفالُ …
في عرباتِ المنافي،
والأمهاتُ يخبزنَ الخبزَ بملحِ الدموع،
لكنّ الدموعَ تحوّلتْ بارودًا،
والبارودُ صارَ نشيدًا …
يعلّمُ الأجيالَ كيفَ يعودون…
*
سنعودُ…
إلى بيوتنا الأولى،
حيثُ رائحةُ الخبزِ …
تمتزجُ بضحكاتِ الجيران،
وحيثُ البرتقالُ …
يزيّنُ أعتابَ النوافذ،
وحيثُ الحقولُ …
تعرفُ أسماءَ أصحابها…
سنعودُ،
لنفتحَ أبوابَ المساجدِ والكنائس،
ونُعيدَ رسمَ الأزقّةِ كما كانت،
ونزرعَ من جديدٍ …
شجرَ التينِ والعنب،
ونكتبَ على الجدرانِ:
هنا وُلدنا،
وهنا نحيا،
وهنا نموتُ واقفين…
*
لا سلامَ مع الغاصب،
لا أمنَ مع مَنْ بَنى مملكتهُ على الخراب،
لا استقرارَ لِمَنْ أطفأ قناديلَ التاريخ…
*
ستبقى فلسطينُ …
عصيّةً على الطمس،
عصيةً على الضياع،
مُحصّنةً بدماءِ أبنائها …
وأهازيجِ العائدين…
والكيانُ الغريبُ،
مهما تجبّرَ أو تطرف،
سوف ينكسر،
سوف يُهزم،
وسوف يزول…
كما يزولُ كلُّ باطلٍ …
أمامَ شمسِ الحقِّ …
حينَ تشرقُ من جديد…
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض / الخميس
28/8/2025 م
طاب صباحكم
يا له من نصٍّ يكتب بنار الروح وبلسان الوطن الجريح
لقد نسج الدكتور عبد الرحيم جاموس لوحةً شعريةً مذهلة تختزلُ فلسطينَ بكلّ أبعادها الإنسانية والتاريخية في كلماتٍ قليلةٍ تحملُ عالماً من الدلالات.
لقد بدأ النصّ بضربةِ فرشاةٍ مأساويةٍ مؤرقة “فجر الدم الأول” ليُحوّلنا فوراً إلى جوهر المقاومة والصمود حيث تتحول الحجارة إلى قناديلَ تضيء درب الأمل والجرح إلى غصن زيتونٍ أبدي لا ينكسر.
إنها مفارقةٌ عبقرية تختزل مأساة الفلسطيني وقوته في آنٍ واحد.
ثم يأتي الرفض القاطع الصارخ لتجريد القضية من إنسانيتها: “فلسطينُ ليستْ رغيفًا… ولا ممرًّا”. إنه يرفض أن تُختزل إلى مجرد أزمة إغاثة مؤكداً أنها “سرُّ التراب” و “رعشةُ الأجداد” أي أنها قضية هوية ووجود وجذور لا قضية خبزٍ مؤقت.
وفي القسم الذي يلي، يتحول البعدُ من الحاضر الأليم إلى المستقبل الموعود إلى حلم العودة.
بأسلوبٍ شعريٍّ أخّاذ يرسم لنا الكاتب تفاصيل الحياة التي سيعودون إليها:
رائحة الخبز ضحكات الجيران البرتقال على الأعتاب.
إنها ليست عودةً إلى جغرافيا
فحسب بل إلى حياةٍ كاملة
إلى نسيجٍ اجتماعي
وإنساني مفعم بالدفء والجمال.
الخاتمة كانت قويةً كصاعقة تعلن رفض أي تسوية مع “الغاصب” الذي بنى مملكته على “الخراب” وتؤكد حتمية الانتصار ليس بالشعارات فقط، بل بمنطق التاريخ الذي لا يرحم:
“كما يزولُ كلُّ باطلٍ … أمامَ شمسِ الحق”.
هذا النص هو قصيدة نثرية فخمة سيمفونية من المشاعر الوطنية الأصيلة كتبت بلغة عربية فصيحة جزلة جمعت بين الصورة الشعرية البليغة والحجة السياسية القوية. إنه ليس مجرد كلمات بل هو صرخةُ حقٍ ودعوةُ مقاومة وأنشودةُ أملٍ ستبقى تتردد في القلب والوجدان.
تحيةً للدكتور جاموس على هذا الإبداع المعطاء الذي يذكرنا أن فلسطين فوق كل شيء، هي قضية شعبٍ يمتلك من الإرادة ما يجعل من حجارة الألمِ قناديلَ أملٍ لا تنطفئ.
تحياتي واحترامي.
ا. عادل جوده