الشماتة والتشفي: حين تتحول الحزبية إلى سمّ؟.. بقلم/ حلمي أبو طه

غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة ولا مجرد عنواناً لمعاناة إنسانية مستمرة فحسب، بل هي مرآة لوجعٍ داخلي يكشف عمق الانقسام الفلسطيني، ففي اللحظة التي يفترض أن تكون الدماء فيها جسراً للوحدة، يتحول الوجع إلى وقود للخصومة، ويصير الألم مادة للتشفي والشماتة بين أبناء الوطن الواحد. إن أخطر ما يطفو على السطح ليس الحصار أو القصف، بل ما يتسرب إلى النفوس من مشاعر مريضة تتجلى في الشماتة بآلام الآخر، والتهكم على خسائره. وكأن غزة المثخنة بالقصف لا يكفيها الخارج، حتى يضاف إليها نزيف داخلي يضاعف الوجع. هنا في غزة كما في مجتمعات كثيرة، ينقسم الناس بين مؤيدين وخصوم، وما بين فتح وحماس يشتد الانقسام. وبدل أن تكون الدماء مدعاة للتراحم، تتحول أحياناً إلى وقود للخصومة الداخلية.
ما دعاني للكتابة أنني عايشت ذلك شخصياً؛ فقد مازحني أحدهم بعد استهداف قيادات حماس في قطر إن كنت من المتشفين والشامتين، ويعلم الله أنني لم أكن يوماً من الشامتين أو المتشفين. فأنا من المتصالحين مع نفسي إلى درجة الرضا، حتى مع من أساء إليّ، فكيف عندما يكون الجرح في ذات الكف، وبمن نشاركهم الدم والوجع. فلا يليق بنا الفرح بمثل هذه المصائب، ولا ينسجم ذلك مع الأخلاق ولا مع الرجولة. وليس من أخلاقي الفعل المشين. نعم الخصومة السياسية أمر مشروع إذا بقيت في حدود النقد البنّاء واختلاف الرأي. لكنها تتحول إلى سمّ قاتل حين تخرج عن إطارها لتصبح سباباً وتشفياً وامتهاناً لآلام الناس. فالشماتة والتشفي والسبّ أخطر من أي خلاف سياسي، لأنها تحوّل الخصومة من ساحة للنقد البناء إلى مستنقع للعداء والفتنة. فالكلمة الجارحة اليوم قد تتحول غداً إلى حجر يُلقى في نهر تاريخنا المشترك، يوسع الفجوة، ويعمّق الانقسام. ومن هنا يبرز السؤال الأخلاقي والديني: هل يجوز لنا أن نشمت بأخوة لنا في لحظة محنة؟ وكيف نظر الاسلام إلى مثل هذا السلوك وكيف نراها في القانون والآداب العامة؟
القرآن الكريم يجيب بوضوح على ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. هذه الآية الكريمة تقرر مبدأ رفيعاً في التعامل مع الخصوم؛ فقد نهى الله المسلمين عن سبِّ آلهة المشركين، رغم بطلانها، لأن ذلك قد يقود إلى نتيجة عكسية تُثير العداء وتفتح باب السب لله تعالى ظلماً وجهلاً. وهذا درس بليغ يتجاوز حدود العقيدة ليشمل كل ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية: فالتجريح والشتم – سواء لأشخاص أو جماعات أو أحزاب أو حتى لفرق رياضية – لا يثمر إلا عداءً مضاداً، ويفتح الطريق أمام نزاعات لا تنتهي، تستغلها القوى المتربصة بنا لتمزيق صفوفنا وإضعاف وحدتنا. فالشماتة على وجه الخصوص ليست من أخلاق المؤمنين، بل هي من سمات المنافقين والخصوم. قال تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا، إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، فالآية تحث على العفو والستر، وتدعو إلى إصلاح النفوس لا إلى التشهير والتشفي.
القرآن يصوّر الشماتة كخُلق خسيس لأعداء الأمة، إذ يقول جل وعلا: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾. وهذه حال من امتلأ قلبه حقداً وفرغ من الرحمة والمروءة. ويؤكد النبي ﷺ هذا المعنى في قوله: «لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيعافيه الله ويبتليك». فالمؤمن الحقّ يترفع عن مواطن الشماتة، ويستبدلها بالدعاء للغير بالهداية والصلاح، إذ بذلك يحفظ قلبه نقياً، ويقي مجتمعه من نار العداوة والبغضاء. ما بالنا إذا كانت الشماتة بين إخوة الدم والقضية. كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ هذا النص القرآني يصف حال المنافقين وأعداء الأمة، فكيف نقبل أن نقع نحن فيه تجاه بعضنا البعض؟ إن الشماتة لا تتنافى فقط مع الأخوة الدينية، بل تُخرج الخصومة من ساحة الموقف السياسي إلى ميدان التناحر الذي يمزق الصف ويهدم المجتمع. وكما نهى الله تعالى عن الشتم والعدوان، فقد نهى أيضاً عن الفرح بسقوط الآخرين، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾، أي الفرح البطر المتعالي، وفرح الشماتة بآلام الناس ومصائبهم.
بل زاد التحذير شدة حين قال جل شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أي إن نشر السوء والتهوين به، أو التلذذ في إذاعته، ليس مجرد خطأ عابر، بل انحراف أخلاقي يعاقب الله عليه.
ويحسن أن نتذكر حكمة الآباء والأجداد: “الولد العاق يأتي بالمسبة لآبائه”، فهي تذكير بأن السلوك الفردي لا يظل محصوراً بصاحبه، بل ينعكس على أسرته ومجتمعه وحزبه ووطنه. فكل انحدار أخلاقي – فردياً كان أو جماعياً – قد يجر على الجماعة سمعة سيئة ويمنح الأعداء فرصة للنيل منها. ومن هنا فإن الارتقاء بالخطاب والسلوك ليس خياراً، بل واجب شرعي وأخلاقي لحماية كرامتنا ووحدتنا. كما أن الشماتة لا تخالف الدين فقط، بل تخالف أيضاً قيم الأخلاق والآداب العامة التي تجرّم كل ما يؤجج الكراهية ويهدد السلم الاجتماعي. إن مجتمعاً يتغذى على السخرية والشماتة لا يمكن أن ينهض، بل يظل أسير جراحه الداخلية مهما ادعى القوة. فالشماتة ليست مجرد تعبير عن خصومة؛ إنها انحدار أخلاقي يجرّد الإنسان من إنسانيته. فالمروءة الحقيقية تُقاس بقدرة الإنسان على التعاطف مع جراح الآخرين حتى لو اختلف معهم.
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا تشمتنّ ببليةٍ نزلت بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك”. فالقيم الإنسانية العظيمة لا تقبل أن يكون الألم مجالاً للضحك أو النكاية. بل إن لحظة المحنة هي الامتحان الحقيقي للكرامة والشهامة. كما إن القوانين والأعراف الاجتماعية والآداب العامة جميعها تجرّم السلوكيات التي تزرع الكراهية وتغذي الانقسام. فالسبّ والشتم والتحريض، وكذلك التشفي والشماتة بالخصوم، تمثل تجاوزاً صريحاً للحدود المسموح بها. فهي ليست مجرد كلمات عابرة، بل سمّ اجتماعي يزرع الكراهية ويحوّل الخلاف إلى عداوة، ويُخرج الخصومة عن إطارها المشروع. ومثل هذا السلوك لا يقتصر ضرره على الأفراد فحسب، بل قد يخلّف تداعيات قانونية خطيرة، ويزعزع القيم السائدة التي يقوم عليها استقرار المجتمع. فالشماتة لا تقف عند حدود الكلمات، بل تتحول إلى خطاب كراهية يفتح الباب أمام الفتنة والاقتتال. وقد قال الحكيم الصيني كونفوشيوس: “من يزرع الكراهية يحصد الفوضى”. وهكذا فإن الشماتة ليست تنفيساً عن الغضب، بل هي بذرة فتنة قد تلتهم الجميع.
في علم الإدارة السياسية، فإن النزاع الفعّال ينبغي أن يُدار ضمن إطار منضبط، يقوم على الحوار الهادئ والنقد البنّاء، بعيداً عن الانفعال الشخصي والرغبة في الإيذاء المعنوي للآخرين. فذلك هو السبيل لتعزيز فرص التفاوض، والحفاظ على وحدة الصف، وتمكين المجتمع أو المؤسسة من تحقيق أهدافها الكبرى. وقد سبق الشرع إلى هذا التوجيه، إذ قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقال النبي ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». فهي قاعدة ذهبية تجعل الكلمة الطيبة والأدب في الخطاب أساساً لكل علاقة إنسانية، وتضع حداً واضحاً بين الخصومة المشروعة والانحدار إلى السبّ والعداء. ومن الظواهر الصحية الخصومة السياسية النظيفة والمشروعة، لكن الشماتة ليست خياراً إنسانياً ولا وطنياً ولا دينياً. لنجعل من الألم جسراً للتراحم، لا سلاحاً للانقسام، ولتكن خلافاتنا محكومة بحدود الشرف والوعي والمسؤولية، حتى لا نحول تاريخنا المشترك إلى ساحة لتبادل الشتائم والتشفي، بل إلى صفحة نكتب فيها معنى التضامن والوفاء.
من هنا يتضح أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تجنّب الخلافات، بل في كيفية إدارتها بما يتوافق مع الشرع والقانون والأخلاق. وضبط الخلاف بروح المسؤولية، هو الضمانة لبقاء المجتمع متماسكاً وقادراً على مواجهة التحديات. فغزة التي تنزف دماً كل يوم لا تحتمل رفاهية الشماتة، ولا تملك ترف الخصومة التي تتحول إلى سمّ. فلنرتقِ بخطابنا وأفعالنا، ولنتذكر أن الأعداء يتربصون بنا فرادى وجماعات، وأن أي ثغرة بيننا هي هدية مجانية لهم. وكما قال الحكيم: “الوحدة قوة، والفرقة ضعف”. ومن هنا، تبقى مسؤوليتنا الأخلاقية أن نزرع ثقافة التسامح بدلاً من الشماتة، وأن نُحسن الظن ونلتمس العذر لإخوتنا قبل أن نبحث عن زلاتهم. فما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا، ووحدتنا هي خط الدفاع الأول في وجه عدو يتربص بالجميع. فلتكن كلماتنا جسراً للوحدة لا خنجراً للطعن، ولتكن دماؤنا دافعاً للتراحم لا وقوداً للفتنة.