بين السلطة والضمير: استراحة على شاطئ التاريخ.. عائد زقوت

بعد أن طُويت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بتبادل الأسرى والرهائن، يترقب الجميع انطلاق المرحلة الثانية وما ينتظرها من عقبات، فمن المُرجح ـ وفق الخطة الأميركية لإنهاء الحرب ـ أنْ تتسلّم لجنة تكنوقراط مقاليد إدارة شؤون القطاع، مع نشر قوة شُرطيّة فلسطينية تعمل تحت إشراف إقليمي ودولي.

على الرغم من تراجع الوزن النسبي للموقف الرسمي الفلسطيني، فإنّ العبء الأكبر ما زال يقع على حركة حماس، بوصفها الجهة التي تتحمّل المسؤولية المباشرة عن إدارة قطاع غزة، رغم ما أصابها من إنهاك وتراجع بفعل تداعيات الحرب وآثارها المادية والسياسية والانقسام الداخلي، ومع ذلك فإنّ سكان غزة لا يملكون ترف الوقت في انتظار تحقيق التوافق الفلسطيني المطلوب.

وفي استراحة قصيرة على شاطئ التاريخ، استوقفتني واقعتان:

أولاهما تُعدّ من أبرز الوقائع الدالة على النزاهة والشفافية واقعة رئيس البرلمان السوري ناظم القدسي عام 1954، التي ذُكرت على نطاق واسع في إحدى الجلسات البرلمانية؛ فقد تَرك القدسي سُدة الرئاسة وجلس بين النواب العاديين، مستعرضًا أمام المجلس نسخة من صحيفة اتهمته بأنه “أمر بفتح شارع يمر بجانب قطعة أرض يملكها بهدف رفع قيمتها العقارية”.
وقال أمام النواب: “منذ هذه اللحظة أضع نفسي في موضع المتهم، وأطلب من المجلس أن يشكّل لجنة برلمانية، تُرافقها لجنة فنية، للانتقال إلى موقع الأرض ومعاينته ميدانيًا للتحقق من صحة ما نُسب إليَّ.”
وبالفعل شُكّلت اللجنة، وتوجَّهتْ إلى الميدان، ثم عادت بتقرير يُفنِّد الاتهام ويُثبت بطلانه؛ كما رُوِيَ أنّ القدسي تنازل طوعًا عن حقه في مقاضاة الصحيفة احترامًا لحرية الصحافة وصونًا للمصلحة العامة.

الواقعة الأخرى تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين ادّعت إسرائيل أنّ طابا ليست أرضًا مصرية، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية من اتفاقية كامب ديفيد؛
غير أنّ اللافت للانتباه ليس تفاصيل السردية القانونية، بل موقف رجل واحد: إسماعيل شيرين باشا آخِر وزير للحربية المصرية في عهد الملك فاروق، حيث غادر اسماعيل باشا مصر إلى جنيف بعد ثورة يوليو دون مال أو جاه.

فعندما قَدّمت مصر قرائنها وأدلّتها أمام محكمة جنيف، وقرّرت الهيئة الاستماع إلى الشهود، علم شيرين بالأمر، فتقدَّم من تلقاء نفسه شاهدًا لصالح بلاده، من غير أن يُطلب منه ذلك.
وبحسب ما رواه الدكتور مفيد شهاب رئيس الفريق القانوني المصري: شكّلت خرائط شيرين وشهادته إحدى الركائز التي عزّزت قناعة هيئة التحكيم الدولية بأحقية مصر في طابا.

الشاهد من هذه الوقفة التاريخية ليس مجرد استذكار لصفحات طوتها السنون، بل استحضار لمعاني المسؤولية الوطنية والأخلاقية، حين يتقدّم الانتماء للوطن على كل أشكال الانقسام أو الخلاف، وحين تُجسّد الشفافية رمزًا ومبدأً حاكمًا، وتغدو المساءلة ممارسة مؤسسية يتحمّلها المسؤول قبل سواه، وقتئذٍ يغدو التوازن بين السلطة والضمير نموذجًا واقعيًا في الحياة السياسية، بديلاً عن الارتهان للشعارات أو الانغلاق في الأيديولوجيات.

وفي السياق ذاته، فإنّ المشهد الفلسطيني اليوم أحوج ما يكون إلى أن تتحلّى فصائله، وفي مقدّمتها حركة حماس، بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، وأنْ تنحاز إلى النسيج الوطني الفلسطيني، ليعود التوازن المنشود بين السلطة والضمير في الحياة السياسية الفلسطينية،
وإلّا سنظلّ جميعًا أسرى الانغلاق الفكّري والأنَويّة السياسية، وحسابات السلطة والحُكم التي سُفِكَتْ دماؤُنا على معبدها؛ دون أن نتعلم أنّ الضمير آخر ما يبقى حين تغيب السلطة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com