خالداتٌ…

نصٌ بقلم: د. عبد الرحيم جاموس

من صمتِ العتمةِ تولدُ الصُّوَر،
ومن غبارِ الأمسِ …
تنبعثُ الأصواتُ …
كأنَّها صلاةٌ مؤجَّلة،
تخطُّ في الرُّوحِ …
خرائطَ مَن عبَروا،
كأنَّ الحنينَ وطنٌ يُقيمُ في القلبِ لا يُرى…
*
تُغمِضُ عينيكَ…
فتغيبُ الجهاتُ عنكَ،
لكنَّ الذاكرةَ لا تُغمِضُ جفنَها…
*
تسري فيكَ كالنهرِ القديم،
تحملُ وجوهَ الأحبَّة،
وصدى الأوطانِ البعيدة،
ورائحةَ الحلمِ الأوَّل…
*
هي التي تفتحُ قلبَكَ …
حينَ يُغلِقُ العالمُ أبوابَه،
وتوقظُ فيكَ الطفولةَ …
حينَ يشيخُ الأمل،
وتذكِّرُكَ أنَّكَ لستَ وحدَكَ،
بل امتدادُ مَن مضَوا،
وصوتُ مَن سيأتون…
*
الذِّكرياتُ يا صاحبي،
ليستْ ماضياً يسكُنُنا،
بل أوطانٌ نحملُها …
حينَ تُسلَبُ الأوطان،
وصوتُ وعيٍ يُبقي الإنسانَ إنساناً،
مهما أطفأوا النورَ،
ومهما أطبقَ الليلُ على الحُلم…
*
فنمْ إنْ شئتَ بعينٍ مغمضة،
لكنَّ الذاكرةَ ستبقى ساهرةً…
تُضيءُ خُطاكَ …
في عتمةِ الوجود،
وتهمسُ لكَ:
مَن نسيَ ماضيَهُ…
فقدَ طريقَ الغَدْ …!
د.عبدالرحيم جاموس
الرياض / الثلاثاء
4/11/2025

بسم الله الرحمن الرحيم

✨قراءة أدبية في نص: “خالداتٌ…”
للدكتور عبد الرحيم جاموس

✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك

🗯️ يمثل نص “خالداتٌ…” للدكتور عبد الرحيم جاموس لوحة شعرية نثرية مكثفة، تنسج خيوطاً دقيقة بين الذاكرة والهوية، بين الماضي والحاضر، بين الفقدان والأمل.
يأخذنا النص في رحلة عميقة إلى أعماق النفس الإنسانية، مستكشفاً دور الذاكرة كحافظة للوجود ومقاومة للنسيان.

🕊️الذاكرة كخلاص وجودي

يبدأ النص بلحظة ميلاد الصور من “صمت العتمة”، وكأن الكاتب يؤكد أن الجمال والمعنى往往 ينبثقان من رحم المعاناة والفراغ.
هذه الصور التي تولد من العتمة ليست مجرد استعادة للماضي، بل هي عملية إبداع وجودي، حيث يصبح الأمس المتراكم كالغبار منبعاً للأصوات الحية، التي تشبه “صلاة مؤجلة”.
والصلاة هنا ليست مجرد طقس ديني، بل هي اتصال بالمقدس في الإنسان، بجوهره الذي لا يموت.

🕊️ الذاكرة كوطن بديل

يقدم النص فكرة عميقة عندما يشبه الحنين بـ”وطن يُقيم في القلب لا يُرى”. هنا ينتقل مفهوم الوطن من الجغرافيا إلى النفس، من المكان المادي إلى الفضاء الوجداني.
فالذاكرة تصبح وطناً محمولاً لا يستطيع أحد سلبه، حصناً منيعاً في وجه تغول الزمن واغتراب المكان.
وهذا يتجلى بوضوح في قوله:
“الذكريات يا صاحبي، ليست ماضياً يسكننا، بل أوطان نحملها حين تُسلَب الأوطان”.

🕊️ الذاكرة كاستمرار وجداني

لا تكتفي الذاكرة في النص بحفظ الماضي، بل تمتد جسوراً نحو المستقبل. فالإنسان ليس كائناً منعزلاً، بل هو “امتداد من مضوا، وصوت من سيأتون”.
بهذه الرؤية، تصبح الذاكرة حلقة وصل بين الأجيال، ناقلةً تراث الماضي وهموم الحاضر وآمال المستقبل. إنها تضمن استمرار الهوية رغم كل محاولات القطع والتشويه.

🕊️ الذاكرة كمقاومة

في ظل عالم “يغلق أبوابه”، تصبح الذاكرة ملاذاً ومقاومة. إنها “صوت وعي يبقي الإنسان إنساناً”، حتى عندما “يُطفأ النور” و”يُطبق الليل على الحلم”. هنا تتحول الذاكرة من مجرد استذكار إلى فعل مقاومة وجودي، إلى رفض للاستلاب والضياع.
إنها تمنح الإنسان القدرة على البقاء إنساناً في وجه كل محاولات تجريده من إنسانيته.

🕊️ الذاكرة كإنارة للمستقبل

يختتم النص بتحذير عميق: “من نسي ماضيه فقد طريق الغد”.
فالذاكرة هنا ليست هروباً إلى الماضي، بل هي بوصلة توجه نحو المستقبل.
إنها النور الذي “يضيء خطاك في عتمة الوجود”.
فالفرد أو المجتمع الذي يقطع صلته بماضيه يفقد قدرته على التوجه نحو مستقبله، كسفينة بلا بوصلة في محيط متلاطم الأمواج.

// خاتمة :

يقدم د. عبد الرحيم جاموس في هذا النص رؤية فلسفية وشعرية للذاكرة ككينونة حية، كائن لا ينام رغم نومنا، يحفظ وجودنا ويحمي هويتنا وينير طريقنا. الذاكرة في نصه ليست أرشيفاً ميتاً، بل هي نهر قديم يجري فينا، يحمل وجوه الأحبة وصدى الأوطان ورائحة الحلم الأول.
إنها الخيط الذي يربطنا بأنفسنا وبالآخرين وبالتاريخ وبالمستقبل.

في زمن يتجه فيه العالم نحو التسطيح والنسيان، يصبح الاحتفاء بالذاكرة وتقديرها ضرورة وجودية. نص “خالداتٌ…” يذكرنا أن الذاكرة هي كنزنا الذي لا يفنى، وهويتنا التي لا تموت، وإنسانيتنا التي تظل مشتعلة كشمعة في عتمة الليالي الطويلة.

تحياتي واحترامي 💐🌺
ا.د عادل جوده

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com