“ميزان لا يُرى”.. نصٌ بقلم/ د. عبدالرحيم جاموس

في الطريقِ الذي ..
يمرُّ بين الأرواح،
كان الضوءُ يسبقُ الخطوة،
والخطوةُ تسبقُ الاسم،
والاسمُ لا يعني شيئًا ..
إن لم يترك صاحبُه ..
أثرًا يشبهه…
لأن الروحَ تعرف،
ولأن الصمتَ يكشف،
ولأن النيّةَ ..
أصدقُ من كلِّ قول،
يمشي الإنسانُ بميزانٍ خفيّ،
لا تُمسكه اليد،
ولا تراه العين،
لكنّه يعلو …
أو يهبط …
في قلبِ من يمرّ بهم…
لا يهمّني من تكون…
لأن الضوء..
لا يسألُ الظلَّ عن نسبه،
ولأن القلب …
لا يحفظ الألقاب،
بل يحفظُ الرعشةَ …
التي يتركها العابرون …
على أطرافه….
وبقدرِ معاملتك ،
نعم بقدْرِ معاملتك …
يتّسع الطريقُ …
أو يضيق،
تتفتّحُ الأبواب …
أو تُغلق،
تتنفّس الروحُ …
أو تختنق….
لأن الكلمةَ وحدها…
لا تصنع مقامًا،
ولأن الواجهةَ وحدها…
لا ترفع إنسانًا،
ولأن اللمسةَ العابرة للصمت …
أصدقُ من ألف خطاب،
ولأن النيّة …
تصرخُ…
ولو لم تتكلّم…
أنتَ وزنُك،
لا أكثر…
ولا أقل….
فالإنسانُ يُقاسُ …
بما يتركه في العابرين،
لا بما يرفعه من هتاف،
وبما تفعله روحُه …
قبلَ لسانه،
وبما تقوله يداه …
قبلَ كلامه….
والصدقُ، إن حضر ، أضاء،
وإن غاب،
تهاوت الخطواتُ …
كالغبار …
ولأن الكرامةَ …
ليست لافتة،
ولا جدارًا نعلّق عليه الكلام،
بل سلوكٌ يوميّ …
يمشي عاريًا من الادّعاء،
فإن الإنسان …
لا يُرى…
إلا حين يصدق …
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض 20/11/2025
قراءة أدبية تحليلية راقية للنص، مع التركيز على دلالاته الفلسفية والجمالية.
🌟 قراءة في نص “ميزان لا يُرى” للدكتور عبدالرحيم جاموس 🌟

✒️بقلم: د. عادل جوده/ العراق/ كركوك
يُطالعنا الدكتور عبدالرحيم جاموس في نصه “ميزان لا يُرى” بومضة فلسفية عميقة تُعيد صياغة مفهوم “الوزن البشري” والقيمة الإنسانية، مُستدعيًا حكمة باطنية تتجاوز القشور والادعاءات. هذا النص ليس مجرد كلمات، بل هو دعوة لتجريد الذات من زيف الظاهر، والبحث عن الحقيقة في عمق الأثر. لقد نجح الكاتب في بناء معمار لغوي شفّاف، يجمع بين سلاسة التعبير وعمق الفكرة، مما يجعله قراءة تستحق التأمل ..
💖 جوهر النص: فلسفة الأثر والنية
يفتتح الكاتب نصه بمشهد روحي مُجرّد، حيث “الضوء يسبق الخطوة، والخطوة تسبق الاسم”، ليُعلن منذ البداية أن القيمة ليست في التسميات أو الألقاب، بل في الأثر الذي يُشبه صاحبه. إنها معادلة وجودية: الاسم لا يعني شيئًا إن لم يترك صاحبُه أثرًا يشبهه. هذا التقديم يُلغي سلطة الهوية المادية ويُرسّخ سلطة الهوية الروحية.
يبلغ النص ذروته في مفهوم “الميزان الخفي”؛ وهو المعيار الإنساني الأصيل الذي “لا تُمسكه اليد، ولا تراه العين، لكنّه يعلو أو يهبط في قلبِ من يمرّ بهم”. هنا يُحوّل جاموس عملية التقييم من محكمة العقل والمنطق إلى محكمة القلب والإحساس الباطني. هذا الميزان هو خلاصة ثلاثة أركان صوفية: الروح التي تعرف، الصمت الذي يكشف، والنية التي هي أصدق من كل قول. إن النية هي الوقود الصامت الذي يحرك الميزان، وهي التعبير الأنقى عن الداخل.
🛣️ سلطة المعاملة وصدى الروح
يُقدّم الكاتب قاعدة صارمة وعادلة لتأثير الفرد في محيطه: “بقدرِ معاملتك… يتّسع الطريقُ أو يضيق”. يربط مصيرنا الاجتماعي والنفسي ارتباطًا مباشرًا بجودة تعاملنا مع الآخرين. الأبواب لا تُفتح بالجاه أو المال، بل بلغة المعاملة الصادقة التي تجعل الروح “تتنفّس أو تختنق”.
في مواجهة ثقافة المظاهر، يفكّك جاموس أسطورة “المقام” و”الواجهة”. الكلمة وحدها لا تصنع مقامًا، والهتاف لا يرفع إنسانًا. القيمة الحقيقية تكمن في “اللمسة العابرة للصمت” و”ما تفعله روحُه قبلَ لسانه”. هذا التركيز على الفعل الصامت والإيماءة الخفية هو ما يُسمّيه الأدباء بـ “بلاغة الصمت”؛ وهي اللغة التي تتقنها النيّة فتصرخ ولو لم تتكلم.
⚖️ خلاصة الوزن والكرامة العارية
يصل النص إلى نتيجة حاسمة ومُكثّفة: “أنتَ وزنُك، لا أكثر… ولا أقل”. هذا التلخيص الموجز يختزل الحياة بأكملها في معادلة أخلاقية لا تقبل الجدل. يُقاس الإنسان “بما يتركه في العابرين”، لا بالصخب الذي يثيره. الأفعال القلبية واليدوية (ما تقوله يداه قبل كلامه) تتقدم على الأقوال اللفظية.
وفي ختام النص..
يُرسّخ الكاتب مفهوم الكرامة بوصفها “سلوكًا يوميًا يمشي عاريًا من الادّعاء”. الكرامة ليست لافتة أو جدارًا للتباهي، بل هي ممارسة مستمرة للصدق والتجرد. هذا التجرد هو الشرط الوحيد للرؤية الحقيقية: “فإن الإنسان لا يُرى إلا حين يصدق”. عندما يحضر الصدق، يضيء الطريق، وعندما يغيب، “تهاوت الخطواتُ كالغبار”، في تصوير حسي مُؤثّر لزوال كل ما بُني على الزيف.
🖋️ جمالية اللغة والأسلوب
اعتمد الدكتور جاموس على لغة عربية فصحى شفيفة، مُطعّمة بالإيقاع الداخلي والتكرار المُتعمّد (“لأن…”) لتعزيز الحُجة. استخدم أسلوب المقابلة ببراعة لتوضيح الفكرة (يعلو/يهبط، يتّسع/يضيق، تتفتّح/تُغلق، تتنفّس/تختنق)، مما أضفى على النص بُعدًا تعليميًا وفلسفيًا. إن نص “ميزان لا يُرى” هو تذكرة خالدة بأن القيمة الحقيقية للإنسان كامنة في خبايا روحه، وأن الأثر الباقي لا يُصنعه اللسان، بل يُشكّله الصدقُ الذي لا يحتاج إلى شاهد.
تحياتي واحترامي🌸🌷



