دُمــــــــوعٌ في خِّيَام غـــــــــــــــــــــــــــــــزة… الدكتور/ جمال أبو نحل

إن أيقُونة الوطن المواطن، فلا قيمة لوطن من غير المواطنين، ولا قيمة لمواطِن من غير وطنه الذي وُلد فيه إنسانًا حُرًا كَريمًا عزيزًا ينعُم بالحُرية، غير فاقد لنعمة الأمنِ، والأمان؛ فما أجمل أن يعيش الإنسان حياتهُ مُطمئنًا في ربوع وطنه وبين أمُهِ، وأبيهِ، وإخوانهِ، وأقاربهِ، وأحبابهِ، وأصحابهِ، وشعبهِ، وأسرتهِ، وفصيلتهِ التي تأويه، فيحيا سعيدًا في مُوطنه الأُم، أمنًا في سربهِ، معافًا في جسدهِ، عندهُ قوت يومه مُنعمًا، وكرامتهُ محفوظة في ديارهِ، وسيدًا في دارهِ وينُعم بنعمة الأمن، والأمان، ويعلوا فوق كل ذلك جمال الإيمان، وإن أعظم نعمة على المسلم نعمة الإسلام؛ ومن الطبيعي أن يكون حال هذا الإنسان المواطن المُسلم في وطنهِ نبيلاً جميلاً جليلاً ، فكأنما حيزت له الدُنيا بحذافيرها. وإن خير من يبين لنا قيمة الوطن، والمواطن في وطنهِ هو سيد الأنام، والثقلين؛ ولنا في سيرة، ومسيرة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم العاطرة الأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر؛ فحينما جاء الأمر للنبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالخروج من مكة مهاجرًا إلى المدينة بأمر من الله جل جلاله، وذلك بعد اشتداد البلاء على المسلمين؛ حينئذٍ ودّع النبي صلى الله عليه وسلم مكة باكيًا، وحزينًا على فراقها، وقال : «والله إنك لأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»؛ ودعا الله قائلاً: «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك»؛ ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى وطن آخر؛ وإنما من مكان مولده وموطنه مكة المكرمة، وهاجر إلى المدينة المنورة، ومع ذلك حن لمكة المكرمة شوقًا، وحُبًا، ورق وراق، وترقرق حين فراق مكة، واغرورقت عيناه بالدموع ، ودق قلبه حُبًا لها، ومن ثم توجه بالدعاء إلى خالق الأرض والسماء بأن يحبب لقلبه المدينة كحبه لمكه، وهذا إن ذل يدل على أن حب الأوطان من الإيمان.
وأما فلسطين أرض المحشر، والمنشر، أم البدايات، وأم النهايات، وأرض الأنبياء، الأرض الطاهرة، المقدسة المباركة فلنا في فلسطين وطن يعيش فينا، ويعشعش فينا، ونعيش فيه، وهو مثل جهاز الأُكسجين في التنفس يُنعشنا، ويلفنا ويلحفنا، ويُتحفنا ونتلحف فيه، ويتلحف فينا؛ ولكن وطننا أسير سليب محتل مغتصب من أنجس البشر خنازير الأرض؛ فبعد سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية، وبعد انتهاء الحرب العالمية احتلت بريطانيا فلسطين، وأغلب دول الوطن العربي؛ ومن ثم سلمت بريطانيا فلسطين للعصابات الصهيونية المجرمة، والتي ارتكبت عشرات المجازر قبل عام النكبة ١٩٤٨م وتشرد أجدادنا، وأباءنا، وأصبحنا جميعًا يقال عنا أينما كنا، وارتحلنا “اللاجئين الفلسطينيين”!. وكم هي حرقة قلوبنا من ألم اللجوء ومن وحشة السفر، و الغربة، وطول الطريق، وتقصير أغلب حكام العرب والمسلمين نحو فلسطين؛ وتواصلت معاناة شعب فلسطين طول سنين اللجوء، وزادت الآلام من هذا المئال، والحال الصعب، وأما حلم العودة فصار صعب المنال، ولكنه غير مٌحال؛؛ وللموعظة الحسنة جمالٌ، ومجال، ومنالٌ يُنَال. وعندنا بوحٌ فيه وجَعٌ يُقال، وقد كنا نكتب في هذا المقال، قبل بضعة أيام على هاتفنا النقال، ونحن في الطائرة، وهي تطير في الجو مرتفعة لأعلى مجال ما بين السماء والأرض، وصعدت فوق السُحب الكثيفة، واخترقت الغمام، وتخطتهُ وصعدت فوق الغيوم السوداء المظلمة، وفي هذا المجال أطلنا النظر ، والتأمل، وعيوننا تنظر في ركاب الطائرة من طرفٍ خفى نشاهد ما كان، وقد يكون، وكل من حولنا جلوس في المقاعد القريبة منا في ذلك المكان، وحينما نظرت متأملاً ، ومتفكرًا في كل من حولنا، وبجوارنا في مقاعد الطائرة، دار في خُلدي سؤال؟؛ حينما رأيتُ أغلبهم، ومن خلال ما يلبسون من الزي العُماني الجميل، عرفت أنهم مواطنين عُمانيين عائدين لوطنهم الأم، تعلو على مُحَيَّاهم فرحة العودة لأنهم راجعين إلى ديارهم، وأهليهم، ودورهم في سلطنة عُمان دار الأمن والأمان؛ حينها ترقرقت عيناي بالدموع من مقلتي، وسالت على وجنتي، واخفيت ذلك حتى لا يراها من كانوا بجواري من المسافرين!؛ والسبب لذلك الشعور بالحزن، والمرارة لما وصل له حالنا، وحال شعبنا الفلسطيني من كرب كبير، وذلك هو الواقع، والحقيقة المُرة التي يجب أن نقولها بكل ألم!؛ “فالصراحة راحة”؛ إن الشعب الفلسطيني اكتوى، ولا زال يكتوى بنار عصابة الصهاينة المحتلين المجرمين؛ وكان يحلم ملايين الفلسطينيين ممن يعيشون في بلاد الغربة، ولازالوا يأملون بالعودة لأرضهم وديارهم، ومقدساتهم بفلسطين؛ ومنهم صار حلمه يتلاشى، ويهوى في بئرٍ سحيق، وكثير منهم ماتوا لاجئين غرباء في بلاد الاغتراب؛ بل العكس تمامًا؛ وبدل التفكير في العودة، والرجوع صار أغلب من في فلسطين خصوصًا قطاع غزة يفكرون الخروج منة!؛ ومما زاد الطين بلة أن بعض القادة العرب، والمسلمين لم يرحموا غربة المغتربين الفلسطينيين!. فجعلوهم يدفعوا ثمن أقامتهم، ويسمونه “مُقيم”، ولم يعاملوهم كما عامل الأنصار المهاجرين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ليوم الدين؛ وحتى أكون منصفًا، أغلب الجرحى من أثر العدوان الوحشي على غزة وحرب الإبادة الذي خرجوا، وسافروا للعلاج من غزة للعلاج تم الاهتمام بهم من قبل الحكومات العربية ومنحوهم راتب وسكن، وتم منحهم إقامة، وتأمين صحي، وعلاج؛ وأما الشعب في غزة في الخيام يعيش في ضياع، وضاعت غزة هاشم، واحتُلت وأغرقها الطوفان، الذي لم يحرر الأوطان، وأهدرت في غزة كرامة المواطن الإنسان! وصار أكثر من 94% من شعب غزة يعيش في الخيام حياة الذل، والمعاناة، وكثيرًا ما ترى الدموع تنهمر من أعين المقهورين بغزة، وأغلبهم يعيشون على الكفاف؛ وينتظرون المساعدات الإنسانية، وأغلب الشعب صار يعيش بدل من البيوت، والدور، والقصور في خيام مُهترئة لا تصلح ليعيش فيها الإنسان؛ وأصبحت حياة الشعب أشبه بحياة من يعيش بين المقابر، والقبور؛ شعب لا بواكي، ولا نصير لهم؛ إلا من بعض العرب، والمسلمين من أبطال الانترنت ممن يجلسون في بيوتهم من خلف شاشات الأجهزة المحمولة، واللاب توب يدعوننا لمزيد من الصبر، والصمود، وتحمل البرد، والجوع، والقصف الذي لم يتوقف حتى اليوم من الخنازير اليهود!؛ وإن غالبية من خرج من شعب فلسطين، وخاصة من سكان قطاع غزة لم يحيا حياة رغيدة، ولا سعيدة، ولم يرتاح، ولم يجد بلاد الأفراح، وعاش بالغربة عيشة الأتراح، وكثيرًا منهم من هاجر إلى أوروبا كل ذلك التصور، والتأمل كان كالحلم الحزين مر بنا، ونحن لا نزال بالطائرة في أعالي لسماء، نسافر ، ونسافر بحثًا عن العمل الجامعي في بلاد العرب التي أغلبها لا تقدر قدر هذا الفلسطيني الغريب!؛ فالغربة لا ترحم؛ وقل من يرحم في هذا العصر الغريب العجيب!؛ كل ذلك مَر ، ونحن نجلس على الكرسي في الطائرة، وهي لا تزال تحلق في جو السماء ونحن نستمع لقراءة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله؛ يجُود من سورة البقرة؛ وكان حلمي بأن تحط الطائرة رحالها، وتهبط في مطار غزة الدولي الذي دمره العدو المجرم، والذي كان أجمل مطار ، أو تهبط الطائرة في مدينة القدس زهرة المدائن مسرى سيد الأنبياء والمرسلين، وتأملتُ أن نرجع للأوطان، ولِقُرانا، ومدننا الفلسطينية التي هُجرنا منها: حيفا، ويافا، وعكا، وطبريا، وبيسان، واللد، والرملة، والجورة، وقرية ملبس، وصفد، وطبريا، وسمسم، وأم الرشراش وتل الربيع، وحمامة، والمجدل، وسدود عسقلان، وبرير ، وقريتنا بربرة التي كانت مملكة الأراضي، وسيدتها في زراعة أجود أنواع العنب، وكان يضرب فيه الأمثال فيقال:” بربراوي يا عنب” لأنه من أجود العنب أنواع في العالم؛ ولكننا بعد طوفان النكبة الثانية غرقنا، وغرقت غزة، وغرق شعب غزة، وضاعت غزة، واحتُلت من مغتصب محتل نازي صهيوني مجرم جبان، وتشردنا في نكبة ثانية اجتاحت الأوطان، وقتلت الإنسان ودمرت البنيان، ووأدت الاحلام، وزادت الغربة، والآلام كمان، وكمان!؛ ومرت الأيام، والشهور ، والسنين وتواصلت رحلة التيه، والضياع تفتك بفلسطين سيدة الأوطان؛ وبشعبها الحر المغوار؛ ويا حسرتاه على ضياع الأوطان، والتي لم يحن أو يحنو عليها أغلب الحكام وتركوها، وحيدة وقُتلت الاحلام، ودرات الأيام، والشهور، والسنين، وشعب غزة حزين، وغرقت الخيام من شدة الغيث المنهمر من السماء؛ ومعبر رفح سيفتح لمن يريد أن يهاجر، وليس للعودة؛ وبذلك يستكمل العدو مخطط التهجير ورحم أمي رحمها الله كانت تقول لنا مثل شعبي:” من خرج من داره اِنقَّل مقدراهُ”، وهذا هو حال شعبنا فنحن في حال لا سلم ولا حرب، وتقطعت أوصال العائلات داخل فلسطين ومن هم خارجها والغربة مُرة؛ ووصلت الطائرة بنا، وبالركاب أرض المطار، وهبطت بسلام في أرض مُجان قديمًا عُمان حديثًا؛ وأما نحن فتستمر الغربة عن الأوطان، ويتواصل الوجع في قلب كل إنسان حُر فقد الأوطان وصار لاجئ في البُلدان! ؛ ورغم سوداوية المشهد، ومرارة الواقع، وصعوبة الحال لكننا لن نفقد بصيص الأمل؛ ففي نهاية النفق المظلم لابد أن يكون النور؛ والفرج قريب والاحتلال سندحر والأمل بالله عز وجل موجود بأنه سبحانه وتعالى الكريم الجواد سيجود على عبادهِ الركع السجود بأكرم الجود في الوجود.
الباحث، والكاتب الصحفي، والمفكر العربي الإسلامي، والمحلل السياسي
الأديب الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر/ محمد عبد الله أبو نحل
عضو نقابة اتحاد كُتاب وأدباء مصر، رئيس المركز القومي لعلماء فلسـطين
الأستاذ، والمحاضر الجامعي غير المتفرغ/ غزة ــ فلسطين
رئيس الاتحاد العام للمثقفين، والأدباء العرب بفلسطين
dr.jamalnahel@gmail.com



