المطران عطا الله حنا:  القدس مدينة لها فرادتها وخصوصيتها وهي مدينة تختلف عن اية مدينة أخرى في هذا العالم 

ان مدينة القدس لها فرادتها وخصوصيتها وما تتميز به عن أي مدينة أخرى في العالم فهي المدينة المقدسة في الديانات التوحيدية الثلاث وحاضنة اهم المقدسات،  ويعتبرها المسيحيون في مشارق الأرض ومغاربها انها قبلتهم الأولى والوحيدة ، فالقبر المقدس في القدس يعتبر شاهدا على حدث القيامة والقيامة في المسيحية هي ركن أساسي من اركان الايمان القويم .
فلا مسيحية بدون القيامة والرب يسوع المسيح من مهده الى لحده وبعد قيامته كانت مسيرته دوما مسيرة دعوة الى المصالحة والرحمة والمحبة واحترام كل انسان.
ان مدينة القدس تعد حاضرة تاريخية وإنسانية ذات مكانة استثنائية اذ تجمع في فضائها المقدس الديانات التوحيدية الثلاث وقد شكلت عبر قرون مضت نقطة التقاء حضاري وروحي ومساحة تداخل انساني حملت بين جنباتها قيما راسخة من الايمان والرجاء والتعايش.
فالقدس ليست مجرد مدينة بل هي ارث مشترك ومسؤولية جماعية تقع على عاتق جميع من ينتمون اليها ويؤمنون بقدسيتها .
لا يجوز ان يعامل الفلسطينيون في القدس وكـأنهم ضيوف او عابري سبيل او بضاعة مستوردة من هنا او من هناك ، فالقدس مدينة يعتبرها الفلسطينيون عاصمتهم الروحية والوطنية وحضورهم اصيل فيها ولذلك فإننا نرفض أي ممارسة عنصرية تستهدف الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين في هذه المدينة المقدسة والمباركة .
وانطلاقا من مكانة القدس الروحية والإنسانية والوطنية فإننا ننادي دوما بتعزيز ثقافة السلام والتعايش والمحبة والاخوة الإنسانية وهذا يستوجب تعاونا صادقا وعملا مشتركا بين كل أولئك الذين يؤمنون بالقيم الإنسانية وبحق كل انسان ان يعيش بحرية وكرامة وسلام .
نرفض لغة الاقصاء ولغة العنصرية والكراهية أيا كانت الجهة التي تبثها وتنشرها فنحن نؤمن بأن البشر جميعا وان تنوعت انتماءاتهم الدينية الا انهم اخوة ينتمون الى اسرة بشرية واحدة خلقها الله .
الله هو خالق الجميع ولا يوجد هنالك شعب من الدرجة الأولى وشعب من الدرجة العاشرة كما ولا يوجد هنالك شعب الله المختار ، فكل انسان مخلوق من الله هو مختار لكي يعيش ويمارس حياة المحبة والرحمة والسلام.
لا يجوز تجاهل حق الشعب الفلسطيني في ان ينعم بالحرية والسلام في ارضه وفي وطنه فالسلام الذي ننادي به هو سلام مبني على العدالة وبدون العدالة تبقى كلمة السلام شعارا يتغنى به البعض .
ما حدث في غزة وما يحدث في الضفة وما يحدث في القدس من ممارسات عنصرية واستهداف للفلسطينيين ومؤامرات هادفة لتصفية قضيتهم انما كل هذه لا تساعد من اجل تحقيق السلام، فالسلام لا يبنى على حساب كرامة الانسان وحريته بل من خلال صون كرامته وحياته وحقه في ان يعيش بحرية .
يجب الحفاظ على الطابع الروحي المتنوع للقدس وهذا يتطلب منا جميعا الايمان بقيم العدالة الحقيقية ونبذ اشكال التمييز وتمكين كل فرد من العيش بحرية وكرامة في وطنه وفي مجتمعه.
نحترم كافة المنتمين للأديان المختلقة في عالمنا وان كنا نجاهر بمسيحيتنا وارثوذكسيتنا ولكن انتماءنا المسيحي الأرثوذكسي لا يجعلنا كارهين للغير حتى وان اختلف عنا الاخر في دينه او في معتقده .
مسيحيتنا تحثنا على المحبة التي لا حدود لها والمحبة ليست مشروطة في انتماء ديني او مذهبي ، فعندما دعانا الرب لكي نحب لم يقل لنا احبوا فلان ولا تحبوا فلان فالمحبة في المسيحية ليست مشروطة بأي شكل من الاشكال.
نحن مسيحيون متمسكون بأصالتنا الايمانية وجذورنا عميقة في تربة هذه الأرض ولكننا لسنا متقوقعين ومنعزلين عن محيطنا وعن مجتمعنا ، فالمسيحي مدعو ان يكون ملحا وخميرة لهذه الأرض وان يكون خطابه دوما خطابا باعثا على الاخوة والمحبة والسلام .
نرفض كافة اشكال التمييز بناء على الانتماء الديني واحترامنا لكل اتباع الديانات التوحيدية انما نابع من ايمان راسخ بأن اختلاف العقائد لا يلغي وحدة القيم الإنسانية المشتركة وبأن التعايش الحقيقي لا يتحقق الا من خلال بناء جسور الثقة وتثبيث الاحترام المتبادل وتعزيز ثقافة الحوار .
ان المستقبل الامن والمستقر للقدس لا يمكن ان يبنى الا على أسس التعاون وتحمل المسؤولية المشتركة واستحضار القيم الأخلاقية التي تشترك فيها الديانات التوحيدية الثلاث.
نؤكد رفضنا القاطع لاي إجراءات تستهدف سلب الانسان حقه الأساسي في ان يعيش بكرامة وحرية وسلام، فلا يحق لاي جهة ان تسلب الانسان حقه في ان يحيا بسلام وحرية وكرامة .
نرفض سياسات الاحتلال الاقصائية بحق شعبنا ولكننا في نفس الوقت ندعو الى احترام التعددية الدينية واحترام حق كل انسان في أن ينعم بالعدالة ، فالعدالة لا تقبل التجزئة ويجب حماية الانسان في وطنه وهذه مسؤولية أخلاقية وإنسانية يتوجب على الجميع صونها واحترامها باعتبارها حجر الأساس لاي سلام حقيقي.
نعم نؤكد مجددا اننا مع السلام وكنا وسنبقى دعاة سلام ولكن ليس أي سلام وليس سلام الشعارات والخطابات الرنانة بلا سلاما يصون حرية وكرامة الانسان ويحافظ على الاخوة والتلاقي والاحترام المتبادل بين الانسان واخيه الانسان.
لا تفتشوا عن السلام بعيدا عن العدالة وما يعيشه شعبنا اليوم انما يشير وبوضوح اننا بعيدون عن السلام ولكننا لن نيأس ولن نستسلم وسنبقى ننادي بتحقيق سلام حقيقي والفلسطينيون يستحقون ان يعيشوا بسلام وامن وامان في وطنهم .
ان ثقافة الكراهية والعنصرية انما هي ظاهرة مقيتة وللأسف هنالك من يمارسونها ومن كل الأديان ولكن في الوقت ذاته وفي كل الأديان هنالك أيضا أناس واشخاص يحملون في قلوبهم المحبة والرحمة والإنسانية وينادون بالعدالة والحرية والسلام.
ان أولئك الذين كانوا يسيرون في المظاهرات المناهضة للحرب كانوا من كل الأديان مسيحيين ومسلمين ويهود وقد وحدتهم معاناة شعبنا وآلامه.
لقد تجلت الوحدة الإنسانية في كافة اصقاع العالم من خلال المناداة بوقف الحرب وتحقيق العدالة المغيبة في هذه الديار .
فهذه هي رسالة القدس والتي لا يحق لاحد ان يدعي انها له وليست لغيره فإنها مدينة جامعة ومقدسة ومباركة والسلام مغيب فيها بسبب ما يمارس بحق أبناء شعبنا ومقدساتنا واوقافنا ولكننا لن نفقد الامل وسنبقى ننادي بالسلام الحقيقي مهما كثرت مظاهر الكراهية والعنصرية ومظاهر الاقصاء والكراهية .
سيبقى حضورنا وصوت كنائسنا صوتا منحازا للمظلوم والمتألم ومناديا بالوحدة والاخوة والحوار والتلاقي بين الانسان واخيه الانسان .
لا للكراهية ولا للعنصرية ولا لاستهداف الانسان أيا كان بسبب دينه او خلفيته العرقية فيحق لكل انسان ان ينعم بحياة فيها الامن والأمان وفيها الخير والسلام .
حفظ الله مدينتنا المقدسة لكي تكون حاملة دوما لرسالة المحبة والسلام في زمن الحروب والكراهية والبغضاء وفي زمن العنصرية والاقصاء.
ونحن على يقين بأن قوة الخير سوف تنتصر على قوة الشر وقوة السلام سوف تنتصر على الحروب وآلة الموت والدمار .
اعاننا الله جميعا لكي نكون حاملين لهذه القيم ولكي يكون انحيازنا دوما للإنسان المظلوم وليس للظالم على حساب المظلوم.

المطران عطا الله حنا 
رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس 

القدس 9/12/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com