معركة الوعي,, الأساس الذي تُبنى عليه الحرية والدولة.. بقلم د.عبدالرحيم جاموس

في خضم النضال الفلسطيني الطويل من أجل الحرية والاستقلال، تبرز معركة الوعي كحجر الزاوية الذي تُبنى عليه جميع المعارك الأخرى. فهي ليست مجرد معركة ثانوية أو تكميلية، بل هي الجذر الذي تتفرع منه أغصان البناء والتحرر.
فكيف يمكن لشعب أن يبني دولته المستقلة إذا لم يحسم أولاً رؤيته لهويته، ولتاريخه، ولمستقبله، ولوسائل تحقيقه؟
الوعي: البنية التحتية للثورة والبناء
ما نعنيه بـ “معركة الوعي” هو ذلك الصراع الفكري والثقافي الذي يحدد وعي الأفراد والجماعة بطبيعة مشروعهم التحرري، وأهدافه، ووسائله، وتضحياته. إنه عملية بناء الهوية الوطنية الواضحة القادرة على تمييز الصديق من العدو، والحق من الباطل، والأساسي من الثانوي.
دون هذا الوعي الحاسم، تصبح التضحيات الجسام التي يقدمها الشعب مجرد أحداث متناثرة بلا سياق يربطها، وبلا اتجاه يحفظ قيمتها ويواصل مسارها.
الفوضى والتيه:
ثمن إهمال معركة الوعي …
عندما تُهمل معركة الوعي، أو تُترك للصدفة ولتأثيرات القوى المضادة، فإن الفوضى تصبح هي سيدة الموقف.
تتشتت الجهود، وتتبدد الطاقات في مسارات متضاربة، وتضيع البوصلة التي ترشد إلى الهدف. وفي هذه الحالة، حتى أعظم التضحيات يمكن أن تذهبـَ هباءً منثوراً، لأنها تفتقد إلى الإطار الفكري الذي يحولها من أفعال فردية أو جماعية آنية إلى خطوات متراكمة في مسيرة التحرر والبناء.
الوعي كسلاح مقاومة وبناء …
في السياق الفلسطيني، يلعب الوعي دوراً مزدوجاً:
1. كسلاح مقاومة: فالشعب الواعي بقضيته العادلة، وبحقه الثابت في أرضه، وبزيف الروايات المضادة، هو شعب يصعب هزيمته.
هذا الوعي يحفظ الذاكرة الجمعية، ويقوي الصمود، ويخلق مناعة ضد محاولات طمس الهوية والتاريخ.
2. كأساس للبناء: لا يمكن بناء دولة مستقلة دون رؤية واضحة لمكونات هذه الدولة: نظامها السياسي، هويتها الحضارية، مشروعها الاقتصادي، وعلاقتها بإقليمها وعالمها.
هذه الرؤية لا تولد من فراغ، بل هي ثمرة لوعي جماعي يُصاغ عبر الحوار الوطني، والنقاش المستنير، والتربية الأصيلة.
نحو حسم معركة الوعي …
إن حسم معركة الوعي يتطلب جهداً وطنياً شاملاً:
تعزيز التعليم الوطني الذي يغرس الانتماء والحقوق التاريخية.
حماية الرواية الفلسطينية من التشويه والنسيان.
تشجيع الحوار الداخلي البناء الذي يوحد الرؤى دون أن يلغي التعددية.
ربط الأجيال الجديدة بذاكرة الشعب ونضاله عبر وسائل إبداعية معاصرة.
مواجهة محاولات التضليل الخارجية والداخلية بخطاب عقلاني مقنع.
في النهاية، إن معركة الوعي هي المعركة الأم التي تُهزم فيها الهزيمة نفسها.
فهي التي تحول الشعب من مجرد كتلة بشرية إلى أمة قادرة على تحديد مصيرها.
وكما أن البناء يحتاج إلى مخطط هندسي دقيق قبل وضع حجر الأساس، فإن بناء الدولة المستقلة يحتاج إلى “مخطط وعي” يجمع الشتات الفكري ويوحد الرؤى ويضيء الطريق.
لذلك، فإن أي إستراتيجية للتحرر الوطني والبناء لا تضع معركة الوعي في صلب أولوياتها، هي إستراتيجية قاصرة، تخاطر بضياع التضحيات وبتأجيل الحلم.
فالحرية تبدأ في العقل أولاً، ومن هناك تنتقل إلى الأرض، لتبني عليها وطناً يستحق كل ما قدم من أجله.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض
24/12/2025 م



